عامٌ من العزلة
مرّت سنة على انتشار وباء كورونا، مخلِّفة ضحايا عديدين من كل الأعمار، ومن كل فئات المجتمعات، في الشمال والجنوب وفي الشرق والغرب، سَنَةٌ جَرَّبَ فيها الإنسان الحجْر الصحي، والتزم قواعد جديدة في العيش، منتظراً إمكانية إيجاد الحلول القادرة على إبطال مفعول الفيروس، والحدّ من انتشاره .. تعطلت طاقات وقدرات كثيرة للبشر أمام غموض الوباء، وسرعة اختراقه كل المجتمعات. وبعد مرور هذه السنة، يجري الحديث اليوم عن موجة جديدة أسرع من السابقة، وأكثر فتكاً. يحصل هذا زمن انطلاق حملات التلقيح في دول عديدة، بكل ما تحمله من آمال مرتبطة بمواجهة وقائية، يفترض أن تساهم في محاصرة الوباء ووقف سهولة انتشاره.
ما زال فيروس كورونا يحتل الصدارة في مختلف المجتمعات، وما زالت تحوُّلاته وأصنافه تتناسل وتنتشر، مُخَلِّفَة خوفا كثيرا وألما كثيرا. يرتفع عدد الضحايا ثم يتناقص، تَتِمُّ تعرية صور النقص المهول في البنيات الصحية، سواء في المجتمعات الغنية أو الفقيرة، تليها لحظاتٌ من الصمت عن نقص الأكسجين، وعدم كفاية الأجهزة اللازمة للعلاج عند ارتفاع أرقام المصابين، فيزداد الخوف، وتتضاعف إجراءات العلاج.
تواصل الحكومات إصدار القرارات والإجراءات المُعَزِّزَة لمبدأ الْحَدِّ من التجمعات والاختلاطات، تغلق المقاهي والمطاعم والمسارح وقاعات الحفلات، ثم تفتح ساعات محدودة خلال النهار وبشروط خاصة، الأمر الذي يضع الحكومات أمام مبدأ الْحَدّ من الحريات الفردية والخاصة، على الرغم مما يثيره ذلك من أسئلةٍ في موضوع أدوار الدولة في المجتمع، وأدوارها بالذات زمن الأوبئة والكوارث الطبيعية. هذا من دون الحديث عن الآثار التي خَلَّفَها الوباء في مختلف أوْجُه الحياة، في نمط العيش وفي الاقتصاد وفي الموقف من الحياة والموت، وكذا في مختلف الآثار النفسية والاجتماعية المُتَرَتِّبة عن كل ما ذكرنا، وهي آثارٌ تخترق اليوم وجود الإنسان، لتكسر، بكثير من العنف، أنماط العيش التي استأنس بها، وصنعت مختلف مساراته في الحياة، فجاءت كورونا لِتُوقِفَها، وتضع شروطاً جديدة لعالم جديد، شروط التعايش مع الوباء، حيث لا بديل اليوم والآن عن مبدأ التعايش مع الوباء، وذلك بمراعاة المقتضيات الضرورية لذلك.
وضع البشر الأقنعة على وجوههم، وحملوا انقباضهم غضبهم خوفهم حزنهم في العيون وفي الحركة، وعانقوا آمالهم العريضة في اقتراب الفرج
مَرَّ عام كامل على بروز ظاهرة انتشار الوباء في الصين، ثم في أوروبا والولايات المتحدة، ثم باقي العالم، وبروز مختلف النتائج التي تَوَلَّدَت عنه في مختلف المجتمعات، مئات الآلاف من الضحايا، هشاشة البنيات التحتية الطبية في مراكز الاستشفاء الخاصة والعامة، صعوبات المواكبة العلمية للظواهر المرتبطة بالفيروس وتقلُّباته، وصور انتشاره، أشكال من الانقباض النفسي حولت الكائنات البشرية، وخصوصا في الأشهر الأولى لبداية انتشار الوباء، إلى كائنات خائفة. ولم تتردَّد الفضاءات الافتراضية في إشاعة أساطير النهايات، نهاية الحياة، نهاية الكون والبشر. وقد لاحت علاماتها الأولى في أعْيُن من ينتظرونها ويُعَمِّمُون صورها. تَوَقَّف الإنتاج، واتَّسعت مظاهر البطالة، أغلقت المدارس والجامعات، كما أغلقت المعامل والمقاولات، وملأت أخبار الضحايا فضاءات السمعي البصري، وهي فضاءات جديدة، ولا عهد للناس بها، فتضاعفت عوالمهم، وتنوعت وقائع حياتهم، لتزداد توتراً. ارتفعت درجات الفقر والهشاشة، وشملت كثيراً من فئات المجتمع وقطاعاته.
استأنس البشر خلال السنة المنصرمة بخوفهم، وضعوا الكمَّامات على أَوْجُهِهم، وتبادلوا الحديث عن بعد، التزموا بقواعد الحجْر الصحي والعزْل الاجتماعي والتباعد الجسدي .. لا خروج ولا تسوُّق، ولا ركوب في الطائرات والقطارات والحافلات، ولا فسحة ولا سفر، تَكَيَّفُوا مع متطلبات عالمٍ جديد من صنع فيروس كورونا، عالم أصبح بمذاقاتٍ أخرى، مراراتٍ أخرى، لا وقت للأفراح ولا لتبادل العزاء، وبحكم الغموض الذي لَفَّ كثيرا من أوجُه الحياة، اختلطت أمورٌ كثيرة، استأنس الناس بالغموض الذي يَلُفُّ موضوع الفيروس، ويرتبط بمساره وتحولاته، والغموض المرتبط بحضوره وبآثاره، غموض المعرفة العلمية وغموض ما يتم تداوُله في الوسائط الاجتماعية. واستساغوا قَسْراً وكراهية قَبُول كل ما سبق، أَمَلاً في أشهر من العيش قادمةٍ بلا مُنَغِّصَات، وأَمَلاً في نمط آخر من العيش الجديد بطرق وأساليب أخرى في العيش.
ينخرط الجميع اليوم في عمليات التعايش القسري مع الوباء ومقتضياته، ويتواصل الخوف
وضع البشر الأقنعة على وجوههم، وحملوا انقباضهم غضبهم خوفهم حزنهم في العيون وفي الحركة، وعانقوا آمالهم العريضة في اقتراب الفرج. حملوا ذلك كله صامتين وكاتمين الغيظ الذي أصبح جزءاً منهم. مَرَّ عام على الأحوال نفسها، بدأت في الأشهر الأخيرة عمليات التلقيح، وشملت فئات من البشر ينتمون إلى قطاعات معينة، الصحة، الأمن، التعليم. أو إلى سنوات عمرية محدّدة، الشيوخ والعجزة أولاً، في انتظار تعميمه على من تبقَّى من الساكنة. وتكاثر الحديث عن أصناف اللقاحات، ومخاطر بعضها، وتواصل اﻟﭭﻴﺭوس حاضراً بأشكاله الجديدة، وموجاته التي لا تنقطع ولا تخفت إلا لتعود، وأحياناً بكثير من الشِّدَّة والسطوة والفزع. يُواصل الفيروس حضوره، يمارس جبروته الصامت، ويواصل البشر عزلتهم بأعين شاخصة، ووجوه لم تعد ملامح تعبيرها قادرةً على نقل ما يدور بدواخلهم.
مَرَّ عام من العزلة. ينخرط الجميع اليوم في عمليات التعايش القسري مع الوباء ومقتضياته، يتواصل الخوف، ويستقر بتواصل أخبار الموت والموتى، وتضارب سوق اللقاح وأسواق العلاج. ويبدو أنه لا يوجد اليوم مخرج من الضائقة بعدما عَمَّت واستقرّت. لم نعد ندرك أسئلة العزل المرتبط بالخوف، والعزْل لا يُدرَك بالمشاهدة، وقوة ما يحصل في الذات أيام الحجْر وأشهره تستقر في تلافيف الجسم والوجدان، محدثةً رجّات نفسية وجسدية، يصعب التخلص من آثارها المباشرة وآثارها المقبلة. أما أفعال المقاومة ومواقف التفاعل والتعايش وقيم التفاؤل والتعلق الحياة، فإنها تظل مجرّد مُسكِّنات مؤقتة، مُسكِّنات تمهد لسقوطنا المنتظر أمام تلاحق ضربات الموجات الجديدة والمتحوّلة من كورونا، ومن أخواتها المحتملة الحصول.