طوفان الأقصى يستدعي إعصار رفض التطبيع
باختصار، قلبت حرب طوفان الأقصى الطاولة على كل الحسابات الأميركية في المنطقة، فضربت عملية التطبيع العربية الإسرائيلية المتسارعة، وقضت على هدف دمج إسرائيل في المنطقة وعزل الفلسطينيين، وتركهم عرضةً لعملية تصفيةٍ إسرائيليةٍ وقتل تدريجي، تمهيدا لإلغاء القضية من القاموس السياسي والوعي العربي.
لذا؛ ليست عملية الانتقام الوحشية الجارية إسرائيلية فحسب، وإنما أميركية بامتياز، لأن ما نراه من جرائم حربٍ وإبادة عائلات بأكملها، لا يفسّر برغبة إسرائيل في هزيمة حركة حماس والفصائل الفلسطينية وهزيمة الشعب الفلسطيني، الذي اتضح لواشنطن أن قدرته على المقاومة لم تنفد أو تضعُف، لكن انتقام واشنطن هو رسالة إلى العالم وردّ على اهتزاز هيبتها الذي أحدثته مفاجأة 7 أكتوبر الحمساوية الفلسطينية.
حملة طوفان الأقصى التي أثبتت محدودية (وعجز) التفوّق العسكري التكنولوجي الذي تتبجّح به أميركا وإسرائيل في مواجهة مقاتلين متجذّرين في أرضهم ولا حدود لتضحيتهم من أجل الحرية، جعلت المسألة لدى أميركا ليست مجرّد هزيمة "حماس" عسكريا؛ وإنما هي تؤيد، بل وتشارك في حرب إبادة غزّة بغرض تطويع المنطقة بأسرها، بعد أن اعتقدت أنها فرغت من تطويع الأنظمة وقطعت مسافات في تطويع الشعوب.
أميركا، كما هو واضح من تصريحات الرئيس جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، ماضية ومشارِكة مع إسرائيل في هدف القضاء على حماس "كليّا".. فليس مسموحا، ولو ببقاء رمزي للحركة في غزّة، وليس مسموحا لأيّ قوة أن تحاول، بل أن تنجح، في إحداث خرقٍ غير مسبوق للترسانة العسكرية الإسرائيلية، فأمن إسرائيل وتفوّقها العسكري هما من المسلّمات العابرة للإدارات الأميركية، وعملية طوفان الأقصى شطبت هذه الحالة جذريا، وبشكل مذهل وغير متوقع. فإسرائيل وأميركا كانتا تُحدِثان الضجيج بشأن المفاعل النووي الإيراني وطهران كخطر وجودي على إسرائيل، لكنهما لم تتوقّعا أن يأتي الخطر الوجودي من غزّة المحاصرة، وإن كان الحديث عن إيران كخطر وجودي على إسرائيل ضمن ادّعاءات دعايتها الإعلامية لتبرير عدوانيتها وتوسّعها، ومحاولة السيطرة والهيمنة على المنطقة بحجّة حمايتها من "البعبع الإيراني". لكن "طوفان الأقصى" كشفت لهما مجدّدا أن وجود الشعب الفلسطيني المقاوم يمثل خطرا أكبر، لا يمكن التعايش بين مشروعٍ عنصريٍّ كولونيالي وشعبٍ يؤمن بحقوقه وتاريخه وحرّيته.
يبدو أن ليس هناك ترحيب أميركي بطرد أهل غزّة إلى سيناء مصر، لما قد يشكّل ذلك من مشكلة "أمنية"
الغضب الآتي من أميركا قاسٍ، القضاء على "حماس" بكل الطرق، مهما كانت الخسائر البشرية. ولذا، هي تؤيد التهجير القسري الداخلي لعزل "حماس" عن حاضنتها الشعبية، بحجّة كذبة واهية، وهي حماية المدنيين.
وعليه، يمكن توقع الخطوات التالية: أولا: يستمرّ التهجير الداخلي جنبا إلى جنب مع تدمير الأبراج السكنية والمنشآت الحيوية والمدنية، فرضا للتهجير، وتقويضا للبنية التحتية، حتى تصبح غزّة غير قابلة للعيش بدون تدخّل "غربي"، وألا تحدُث عملية إعادة الإعمار إلا "تحت سيطرة أميركية - إسرائيلية"، ويبدو أن ليس هناك ترحيب أميركي بطرد أهل غزّة إلى سيناء مصر، لما قد يشكّل ذلك من مشكلة "أمنية".
ثانيا: بعد تدمير غزّة بدعم أميركي، نستذكر ما جرى في الأيام التي تلت تفجيرات 11 سبتمبر (2001)، من الدعوات الأميركية إلى قصف دول تعارض أميركا وإعادتها إلى العصور الحجرية، ثم إعادة تشكيلها (أفغانستان والعراق)، واستنساخ هذه التجربة في غزّة. ولكن الهدف في حالة غزّة سيكون تحويلها إلى "منطقةٍ عازلةٍ منزوعة السلاح"، وهذا هو النموذج المقبول أميركيا وإسرائيليا، وإن اختلفت المسمّيات، لأي منطقة كثافة سكّانية فلسطينية.
ثالثا: ويرافق ما تم ذكره أعلاه تهديد كل الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس المحتلتين بمصيرٍ مشابهٍ لغزّة، لأوضاع المقاومة في باقي أنحاء فلسطين، وإن كانت إسرائيل قد تُتبِع جريمة حرب غزّة بعمليات "اجتثاث" تنظيمات وفصائل المقاومة كما تحاول أن تفعل مع حماس في غزّة.
رابعا: تتطلّب الخطواتُ أعلاه تعاون الأنظمة العربية معها، حتى وإن تعرقلت عملية التطبيع. وهنا يجب التحذير، فالتطبيع، وإن لم يتوسّع أو يتحقّق من خلال معاهدات، وحتى في حال جمّدت اتفاقيات، لكنه يستمر فعليا من خلال تعاون أمني بين إسرائيل وكل الأطراف من السلطة الفلسطينية ومصر والأردن، ودول الاتفاقيات الإبراهيمية التي سبقت الجميع بارتهانها للرواية الصهيونية، وهو ما يجب أن يتوقّف تماما ونهائيا.
القضية الفلسطينية كانت وما تزال عقبة كأداء في طريق أميركا
يستند ما ذكرته من خطواتٍ أعلاه إلى قراءة تحليلية للتصريحات، وما يبشّر به ويدعو إليه الصهاينة الأميركيون الأقرب إلى الكونغرس وإلى البيت الأبيض، وعادة ما تعكس فعليا سياسات الإدارة الاميركية. غير أن ذلك لا يعني أن عملية تدمير غزّة ستنجح، على رغم الشراكة الأميركية وانغماس واشنطن في الجريمة، أكان بالتسليح أو الدعاية وشيطنة الفلسطينيين. ولكن المقالة حاولت تقديم قراءة لأهداف واشنطن، أملا في المساهمة في نقاش لما نستطيع فعله في مواجهة الانتقام المتوحش. وكنت في مقالي، بعنوان "عن تذرّع الأنظمة بالقضية الفلسطينية" في "العربي الجديد" (8/10/2023)، وإنْ كتبتُه قبل موعد نشره طبعا، حاولتُ رسم صورة حالة لحظة ما قبل الانقضاض الأميركي - الإسرائيلي الضاري لتصفية القضية الفلسطينية مع ما بدا أنه "قرب اكتمال التطبيع العربي - الإسرائيلي"، لكن عملية طوفان الأقصى غير المسبوقة استبقت الانقضاض الأميركي - الإسرائيلي، وقلبت كل المعادلات.
لا يوجد لغزٌ وراء توقيت طوفان الأقصى، من حيث ضرورة القيام بفعل لعرقلة تصفية القضية الفلسطينية، وإن شكّل حجم العملية ونوعيتها مفاجأة مذهلة، فالمقاومة مثل سائر الشعب الفلسطيني، فهمت ما كان يخطّط علنا وسرّاً، ولكن لم يكن أحدٌ يتوقّع ردّاً بهذه الإرادة والقوة والشجاعة والتنظيم والتخطيط بقدر عالٍ من السرّية. لذا؛ لم يكن مستغربا أن تقف أميركا بكل هذه الصفاقة وكل هذا الاستهتار بأرواح الفلسطينيين، فالقضية الفلسطينية كانت وما تزال عقبة كأداء في طريقها.
والجواب، قبل الحرب وخلالها وبعدها، هو رفض الشعوب الحاسم التطبيع.. لا أقول ذلك تقليلا من هول الكارثة ومن دموع أهل غزّة وعذاباتهم التي ننحني احتراما أمامها، بل إن مقاومة التطبيع والضغط على الأنظمة العربية لرفض المخطط الأميركي، هو أقلّ ما نستطيع فعله، وعلينا فعله.