طلّاب ضد الجهل والطغيان والاستعمار
من المهم أن يقرأ طغاة العالم ورعاتهم "ثورة التلامذة" العالمية على وجهها الصحيح، وأن يتوقّفوا طويلًا أمام رسائل طلاب الجامعات في أميركا، ودول أخرى بدأت تشهد انتفاضات مماثلة.
ليست هذه الثورة على التاريخ المزوّر فقط، بل هي قبل ذلك على منظومة قيم ومفاهيم فاسدة ظنّ أصحابها أنها استقرّت في الوعي، أو بالأحرى اللاوعي، متنقّلة من جيل إلى آخر، لتجسّد، في النهاية، أقانيم مقدّسة تمنح أصحاب القوة والنفوذ هيمنة مطلقة على حركة العالم الاجتماعية والسياسية والفكرية.
الطلاب الثائرون في الجامعات لم يسقطوا الأساطير والأكاذيب الاستعمارية الموروثة فقط، بل أسقطوا قبل ذلك كل أشكال الوصاية الفكرية على عقل العالم ووجدانه، وتبيّن في لحظة لم يحسب لها أحد حساباً أن أساطيل هوليوود ومثيلاتها في أوروبا ومناطق أخرى وبوارج الميديا الكوزموبوليتانية لم تنجح تماماً في إخضاع مقاومة الاحتلال الفكري والثقافي للضمير الإنساني.
في تظاهرة ما يقرب من ربع مليون إنسان، احتشدوا في أشهر حدائق لندن "هايد بارك" ظهيرة السبت الماضي، كانت الغلبة لجيل الشباب من الطلاب والتلاميذ وشريحة منطقة العشرين العمرية، إذ جدّدت ثورة طلاب أميركا طاقة الغضب من تسيد الباطل والخرافة والكذب، فعادت المسيرات الضخمة تهزّ سكون العاصمة، وتعلن بوضوح أن عدد أصحاب العقل والضمير والأخلاق في هذا العالم أكبر بكثير جدًا من عدد الأوغاد المتكسّبين من الطغاة والقتلة والسفاحين، وأن عدد محبّي فلسطين والمدافعين عن عدالة قضيتها لا يقارَن بعدد تلك الأقلية المتغطرسة، وأتباعها من الانتهازيين، التي تستثمر في الظلم والقتل وسرقة الأوطان.
التنوّع العرقي والديني والثقافي والاجتماعي في المشاركين بالتظاهرات مدهشٌ ولافتٌ ومحمّل بعديد الدلالات والرسائل، إذ ضمّ خليطًا من الإنكليز الخلّص، والبريطانيين من أصولٍ لاتينية وآسيوية وأفريقية، كما اشتمل على مثقفين وسياسيين من اليمين واليسار والوسط، فتحدّث زعيم حزب العمال السابق، جيرمي كوربين، كما تحدثت ممثلة المنظمات اليهودية، وبرلمانيون حاليون وسابقون من إنكلترا وأيرلندا واسكتلندا، كلهم قالوا بلسان واحد "كلّنا فلسطينيون" وهو التنوّع ذاته الذي يعبّر عن نفسه بأنصع لغة في ثورة الطلاب في مختلف المدن الأميركية، الذين أظهروا رقيًا وبسالة أخلاقية بمواجهة قمع العصور الوسطى، وبطش نظم الاستبداد المتخلف العتيدة، اللذين تمارسهما قوات الشرطة بالقوة المادية، كما تمارسها بالقبح ذاته حكام ولايات ونواب داعمون للصهيونية ومستثمرون فيها.
قلت بعد شهر من بداية العدوان الصهيوني على شعب فلسطين في غزّة إن حالةً من الوعي تسري في جيل الشباب في العالم، وكأن المقاومة في غزّة أشعلت ثورة ثقافية تذكّر بثورة 1968 العالمية التي امتدّت من باريس إلى طوكيو إلى الولايات المتحدة والبرازيل والجزائر، والبلاد الأفريقية وحتى إلى المدن العربية، ضد الإمبريالية الأميركية التي تُشعل الحروب في كل مكان، في ذروة التوحّش الأميركي في حرب فيتنام.
كان الشباب من الطلاب محرّكي هذه الثورة ووقودها، بوصفها ثورة فكرية وثقافية بالأساس اندلعت ضد الهمجية الاستعلائية المتغطرسة، وهذا ما نراه في كل عواصم أوروبا والولايات المتحدة ومدنهما، من انتفاضات شعبية شبابية الطابع والملامح في وجه الجريمة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، وهي الجريمة التي تشارك فيها واشنطن وعواصم الغرب الاستعماري القديم جنبًا إلى جنب الآلة العسكرية الإسرائيلية.
الآن، ونحن على أبواب الشهر الثامن من الجريمة الإسرائيلية الأميركية في غزّة تخبرنا رسائل الطلاب المنتفضين إن هذا الجيل من الشباب الصغير تسلم شعلة الثورة الثقافية الجديدة، وبات هو من يقود الضمير العالمي في الاتجاه الصحيح نحو تطهير تاريخ العالم من النفايات المعرفية التي دفنها القتلة وأدواتهم من الطغاة، لذا يبدو مثيرًا للسخرية أن يردد طاغية باذخ الجهل كلامًا تافهًا من نوعية اختاروا لأبنائكم تعليمهم وثقافتهم في اللحظة التي يغيّر فيها هؤلاء الأبناء العالم بثورة شاملة ضد الاستبداد المتشح بالجهل والظلم المنقوع في الغباء.