طرق عربية إلى قلب سورية عبر الأسد
تتواتر أخبار عن اتصالات تجريها دول عربية مع النظام السوري، عبر أقنية سرّية، أو من خلال أطراف ثالثة، وثمّة ترويج أنّ هذه التطورات ستغير المعادلة الراهنة في الصراع السوري. وتبعاً لذلك، ستتغير أوزان اللاعبين، إذ سيقضم الحضور العربي في سورية من أسهم إيران، ويدفع نفوذها إلى التراجع، بما يكفي للحفاظ على هوية سورية وعروبتها.
يتلبس الاندفاع العربي باتجاه احتضان نظام الأسد ثوب العقلانية التي تقول، في الحالة السورية، إنّ الأسد نجا من السقوط، وإنّ إمكانية إسقاطه بالثورة باتت مستحيلة، لأنّ روسيا وإيران اللتين استثمرتا في الحرب السورية إمكانات خيالية بات الحفاظ على الأسد يوازي الحفاظ على موسكو وطهران بالنسبة لهما. كما أنّ الطرف المقابل، المفترض أنّه خصم للأسد، الغرب بقيادة أميركا، ليس جادّاً في خصومته إلى درجةٍ تدفعه إلى الانخراط في مواجهةٍ مع روسيا وإيران من أجل إزاحة الأسد. بالإضافة إلى أنّ المعارضة المسلحة التي كانت تشكّل الأداة الممكنة لإسقاط الأسد انكسرت ويصعب تجبيرها، بعدما تم تدمير حواملها وحواضنها الاجتماعية، وقد يحتاج الأمر عقوداً حتى تستطيع هذه البيئة لملمة نفسها، والإفاقة من الضربة التي وجهها الأسد وحلفاؤه بتخطيط ودراسة عميقين.
يتلبس الاندفاع العربي باتجاه احتضان نظام الأسد ثوب العقلانية
وتستكمل السردية العقلانية العربية، في سعيها للوصول إلى خلاصات مقنعة، أنّنا انهزمنا في المعركة مع إيران، وليس الآن وقت البحث عن إجاباتٍ لأسئلة من نوع لماذا انهزمنا، بل الأهم كيف نخفّف وقع هذه الهزيمة، ونوقف تداعياتها الكارثية، ولا نجعل إيران تسعد بنصرها، من خلال إبعاد العرب من سورية وإلى الأبد. ويذهب العقل الاستراتيجي العربي إلى رؤية ضوء في آخر نفق هذا الواقع المظلم، يتمثل بطريقين، يمكن من خلالهما الوصول إلى حلّ للمعضلة الاستراتيجية التي باتوا يواجهونها في مواجهة إيران:
الأول: كسب روسيا في صفهم، ما دامت أميركا مفارقة. وكسب روسيا لن يكلف عُشر ما تطالب به أميركا، لكنّ الفارق أنّ روسيا منخرطة على الأرض، وهي مستجدّة في لعبة المكاسب، ولم تصل بعد إلى مرحلة التشبّع التي جعلت الأميركيين يطلبون أثماناً باهظة جداً من أجل خدماتٍ قليلة، بمعنى أنّ خدماتهم، مهما كانت جودتها، أصبحت تساوي أثماناً مرتفعة جداً. أما المقابل الذي يقدمه العرب فيبقى متدنياً بالقياس مع المقدّم من أميركا.
روسيا كانت مستعدّة لمناقشة أيّ فكرة مع الطرف العربي، باستثناء إزاحة الأسد عن السلطة
وقد ساهمت طريقة تقديم روسيا نفسها للعرب، عبر جولات وزير الخارجية سيرغي لافروف العربية، بتدعيم الطموح العربي بإمكانية استيعاب الطموح الروسي، بل توظيفه في لعبة التوازن الإقليمي والدولي، ذلك أنّ روسيا كانت مستعدّة لمناقشة أيّ فكرة مع الطرف العربي، باستثناء إزاحة بشار الأسد عن السلطة. أما بخصوص التقليل من التأثير الإيراني في سورية، فكانت روسيا ترّدد على مسامع العرب: انزلوا إلى الساحة السورية، إن أردتم تحقيق ذلك.
من هنا تأتي العتبة الأولى للطريق الثاني الذي ينطلق من أنّ استيعاب الأسد وإبعاده عن إيران يمرّ حتماً بمنعطف إعادة العلاقة معه واحتضانه. وما دامت المداخل الإيرانية إلى النفوذ على الأسد تمر عبر مدّه بالمساعدات اللازمة لإبقائه واقفاً على قدميه، فهذه أمرها سهل ومتوفرة. وعلى هذه الشاكلة فالمعادلة ليست معقّدة بدرجة كبيرة، ويمكن للعرب أن يعوّضوا ما خسروه في الحرب ضد إيران، بالانفتاح على نظام الأسد.
ليس من الصعب تصور مجريات أحاديث رجل الاستخبارات السوري الأول، علي مملوك، مع زواره أو مستقبليه العرب، وهو بالمناسبة يمكن وصفه "لورنس الأسد" تشبيها بـ"لورنس العرب" الذي سحر قلوبهم في بداية القرن الماضي، فمملوك، أو أبو أيهم، كما يحب أن يناديه ضيوفه أو مستقبلوه من العرب، لرفع حاجز التكلفة، يبدأ أحاديثه مع هؤلاء بالتشديد على عروبة القيادة وتوجهاتها، وقناعتها أنّ العرب هم حاضنتها وهي سندهم، وهم (العرب) أصحاب الدار والأرض في سورية، لكن ماذا نفعل إذا كانت إيران هي من تقدّم لنا النفط والخبز والدعم؟
لن ينتصر العرب، إن كانوا يعتبرون أنفسهم في حربٍ مع إيران لإنقاذ هوية سورية إلاّ بإسقاط الأسد
وأبو أيهم ثعلب مثل لافروف، يسهّل الأمور على "الخصم" المحاور" بدرجةٍ كبيرة، إلى درجةٍ يجعله يعتقد بعدم وجود مشكلة أصلاً، وأنّ المشكلة الحاصلة سهلة الحلّ، لكنّ "الخصم" المحاور لم ينتبه لذلك، نحن أيضاً لا نريد لإيران أن تتغلغل إلى هذه الدرجة في سورية، ولا أن تعبث بهويتها وديموغرافيتها، نعرف ما تعرفونه وأكثر في هذا الخصوص، لكن ماذا نفعل إذا كنا واقعين في مواجهة خيارين أحلاهما مرّ؛ فناء الدولة السورية وضياع وحدة أراضيها، أو تقديم تنازلاتٍ صغيرة لإيران من الممكن إصلاحها بعد زوال الخطر؟ وهنا سيسأل أبو أيهم: هل كنا سنعارض طلبكم للمساعدة الأميركية لو واجهتم الظروف نفسها؟ ألم نذهب لنجدة الكويت عندما تعرّضت لخطر الفناء؟
لكن، لا كلام علي مملوك، ولا دبلوماسية لافروف المبالغ فيها، يغيران من حقيقة أنّ طرق العرب إلى قلب دمشق لن تمرّ عبر الأسد، بل على العكس من ذلك، لن ينتصر العرب، هذا إن كانوا فعلاً يعتبرون أنفسهم في حربٍ مع إيران لإنقاذ هوية سورية، إلاّ بإسقاط الأسد، لأنّه طالما بقي في سورية فإنّ النفوذ الإيراني سيواصل ازدهاره وتطوّره، والأسد لا يريد من العرب غير أموالهم، ولن يأمن لهم في أيّ يوم، وإن أشعلوا أصابعهم شموعاً له.