طبائع الاستبداد الطفيلي .. أسياد وعبيد
يوما بعد يوم، تتكشف عديد من طبائع الاستبداد، بسماتها وتوصيفاتها السلطوية الكومبرادورية والطفيلية. منها ما هو سياسي، مترافق مع مستلزمات الأنساق الأمنية والعسكرية، والتحشيد الطوائفي والمذهبي، ومنها ما هو ديني وثقافي وفكري، تغلب عليه الأيديولوجيا الضليعة بالتزوير للوقائع، وتفسيرها للأحداث، وضلوعها بالتآويل والتقاويل، البعيدة كل البعد عن الحقائق والوقائع العنيدة التي عشناها ونعيشها، والأهم كما عاينها وعينا المبكر في كل مراحله التي نضجت خلالها رؤيتنا وأفكارنا وثقافتنا وآراؤنا الحرة والمستقلة، حين نبذنا كل ما هو تقليدي، في وقتٍ بدا ويبدو أن السلطات التقليدية السائدة في بلادنا، وقد تكشفت كل عيوبها وعوراتها، لم تكن يوما وليدة المصادفة البريئة أو الحاجة الملحّة لمجتمع الناس، من أجل تنظيم شؤونها وفق احتياجاتها واحتياجات مصالحها وتطلّعاتها؛ بقدر احتياج قوى الغلبة بعلاقاتها الزبائنية وتحالفاتها الطبقية والاستحواذية، القائمة على التشبث بطموحات التسلط والاستبداد بالرأي، واستعمال كل أساليب القمع والإرهاب، وجعلها لغة التخاطب اليومية مع مجتمع الناس، المحكومين بأسواط السلطة، لا بأصوات من لا "يعلو" أي صوت لهم، إلا حين تريد السلطة، بحاكمها أو حكامها، أن تضفي على ذاتها، ولو بالتزوير، شرعيةً غير مشروعة، أو مشروعية بلا شرعية، وهذا هو ديدن كثير من سلطات الغلبة التي قذفتها "الأقدار" كي تحكم شعوبها بالحديد والنار.
لا تنبني الدولة/ الدول على قاعدة الرغبات الذاتية للسيد الزعيم؛ السياسي أو الطبقي أو الطائفي أو الفئوي، مستخدما عصبيته لشدّ عصب الناس إليه، وإلى سلطة لم يكن لهم أي خيار في اختيارها أو "انتخابها"، بقدر ما تجري مبايعتها غيابيا باستغلابها على شعبها، حين تعمل على تحويله إلى قطعانٍ من العبيد المشرذمين، الذين لا يدركون أن لهم من الحقوق والمصالح والتطلعات ما ينبغي أن يكون حقهم المقدس لدى الدولة، ولدى ذواتهم قبلا حتى، وهذا ما لا يتوافر عليه الحال في كثير من بلداننا الواقعة تحت نير الاستغلالين، الداخلي والخارجي، لأوضاعنا المحكومة لسلطةٍ لا تعرف غير الطغيان والاستبداد طبيعة وطبعا وتطبيعا وتسييدا هيمنيّا على شعبها، في تجاهلٍ فاضح لكل قيم الحرية والمساواة التي تنظمها القوانين الدستورية والعدالة وحقوق الإنسان والمواطنة وكامل حقوقها المكتسبة.
عادة ما تلجأ المنظومات السياسية المستبدة الحاكمة، على اختلاف أطيافها وفئاتها وطوائفها، إلى الكلام عن عفّة الفضائل الديمقراطية والأمانة والصدق وخدمة الشعب والوطن
إن سلطة تلجأ إلى قتل معارضيها، والتشهير بهم ونشر صور خاصة لهم، وتهديدهم بالقتل وتنفيذ هذه التهديدات، سلطة كهذه ليست قمينةً بالحفاظ على تطلعات شعبها، بقدر سعيها إلى الخروج على كل القيم الوطنية والأخلاقية، والتماهي مع العدو في كثير من أساليبه الفاشية، وهي "سلطة غلبة" لا علاقة لها بأخلاقيات العمل السياسي الوطني، ولا بما تدّعيه من شرعيةٍ أو مشروعية لها، عبر ما لجأت وتلجأ إليه، من أساليب قمع حد القتل المفضوح غير المستتر، بغية إرهاب المجتمع ومحاولة إخضاعه لسلطة أمنية وسياسية فاجرة، لم ترعو عن استخدام كل أساليب الكراهية التي حملتها وارتأتها لهم "بعثات تدريبية خاصة"، وتربيتها لهم بالشراكة مع سلطتهم السياسية على انتزاع روحهم الكفاحية وبث روح الارتزاق في صفوفهم والعمل على الضد من تطلعات شعبهم وقضيتهم الوطنية.
عادة ما تلجأ المنظومات السياسية المستبدة الحاكمة، على اختلاف أطيافها وفئاتها وطوائفها، إلى الكلام عن عفّة الفضائل الديمقراطية والأمانة والصدق وخدمة الشعب والوطن، وهي الأبعد عن كل هذه القيم الأخلاقية والوطنية، مثال ما يجري في دولٍ عديدة لا تمتلك من مقومات الدولة سوى الديكورات الدولانية، حيث بلغت تحوّلات السلطة وتحوراتها أقصى ما يمكن أن تبلغه الدولة الفاشلة من انحطاط الحكم وتمييع السيادة وغياب القيم المواطنية والإنسانية والحقوقية والقضائية في ظل قضاء مسيس، وتجاهل وجود دستور وقوانين دستورية ناظمة للحياة السياسية، على الرغم من وجود برلمانات شكلانية، هي بطبيعتها وطبعها إشكالية، وتلعب دور الظل للسلطة التنفيذية، وشريكتها في اقتسام الحصص والمغانم والمشاريع، والهيمنة على الاقتصاد والمال العام المنهوب الذي يذهب هدرا وسرقاتٍ وتنفيعاتٍ تعلي من قيمة الفساد والإفساد العام، عبر انتقاله من الخصوص إلى العموم، حتى باتت فئاتٌ عديدة من الشعب من الطبقات العليا، إضافة إلى قوى السلطة العميقة، شركاء زبائنيين لمواقع السلطة العليا، حيث يلتقي الجميع حول كعكة السلطة التي يجري تقاسمها مناصب ووزارات. وحين يختلفون، كما يحصل الآن في لبنان، يسقطون الدولة أرضا، فلا يبقى من المسؤولين والمسؤولية سوى الشكل الهلامي، ولا يبقى في نظرهم أي معنى للوطن والمواطن، فمصالحهم هي الأولى وهي الأبقى، وكل ما يعنيهم أن يكونوا أوصياء على حقوق طوائفهم وأهل مذاهبهم، تحت مزاعم إنهم المدافعون عنها. والأمر ليس كذلك بالتأكيد؛ ففي عالم السياسة والحكم والسلطة والدولة، خصوصا في بلادٍ مثل بلادنا، لا يمكن أن يستقيم حكم رشيد بمثل ما نرى ونشاهد ونسمع في بلاد الأعاجيب السلطوية.
لا يمكن لعاقلٍ أن يقف ضد الدولة، إلا حين تنتج من ذاتها ولذاتها منظومة فساد وإفساد، مهمتها الرئيسة تحوّلها إلى سلطةٍ مولّدةٍ للقمع والعنف والإرهاب
قهر المجتمع المدني، جرّاء القمع البوليسي لأنظمة الاستبداد الشمولي والبيروقراطية العسكرية والثيوقراطية، لا يمكن أن يبقي لهذه الأنظمة، أو لسلطاتها التي تلجأ إلى مثل هذا القهر، أي صبغة ديمقراطية أو صفة نزيهة، أو سمة الدول العقلانية الناجحة، فالقهر هنا تسلّطي مرضي انتقامي، لا ينتمي الى السلوك الطبيعي، وإن ما يتبدى رد فعل ناتج عن ممارسة المجتمع المدني وقواه؛ لما يتنافى وسلوك السلطة القمعي الاستبدادي، خصوصا في مواجهتها معارضيها من أحزاب وقوى سياسية واجتماعية، ونخبا تعادي مسلكيات الاستبداد التسلطي.
لقد شكّل المجتمع المدني في التجارب السياسية والمجتمعية الحديثة الأرضية والقاعدة الصلبة التي استطاعت تهيئة شروط ومعايير وآليات إنجاز ديمقراطية حقيقية، لا تنحرف بسهولة عن مآلات الدمقرطة والأهداف الطبيعية لتلك العملية، أو الابتعاد عن آليات تطبيقها. من هنا نشأت وتنشأ موضوعة معاداة السلطويات البيروقراطية المدنية العلمانوية والعسكرية والثيوقراطيات الدينية، على اختلافها؛ لوجود مجتمعٍ مدنيٍّ قويٍّ متحرّر من هيمنة كل تلك السلطويات.
أخيرا، لا يمكن لعاقلٍ أن يقف ضد الدولة، إلا حين تنتج من ذاتها ولذاتها منظومة فساد وإفساد، مهمتها الرئيسة تحوّلها إلى سلطةٍ مولّدةٍ للقمع والعنف والإرهاب، تنحطّ معها كل القيم الإنسانية والأخلاقية، لتضمحل كدولة، وتندثر بفعل غيابها القسري، جرّاء النوازع الغرائزية المهلكة والمدمّرة لحقول الاجتماع الإنساني كافة، وهي نوازع تُعادي الدولة أساسا، كما هي معاديةٌ لكل ما لم ولن يسيّدها بديلا للدولة على شكل سلطة فئوية، بلا سقف، بلا قاعدة، بلا قانون، بلا أحقيّة لها في تسيّد المشهد العام الدولتي، فيما يشبه الانقلاب في الدولة وعليها، وعلى أدوارها الثابتة والمبدئية كسلطة لتنظيم الاجتماع الإنساني، بالتوافق والتراضي عبر أشكال التسيير الديمقراطي للشؤون العامة وآلياته. على أن طائفية السلطة أو فئويتها دليل أصحابها إلى معاداة الدولة، والعمل الدائب على كل ما من شأنه التقليص من مساحة صلاحياتها الوفاقية والتوافقية، بل العمل على اضمحلالها وليس انكماشها فقط، والإيغال بعيدا في الإسهام "الخلاق" بتدميرها وتلاشيها. ما يؤكّد ضرورة حضور الدولة في القواعد والأسس التوحيدية للوطنية الجامعة، لا في شظايا منظومات الفساد والإفساد المتخاصمة أو الفئويات المتناحرة، والقوى السياسوية والطوائفية والأهلوية والشعبوية والحزبوية المتنافرة؛ كلٌّ يباغض الآخر، ويباعد بينه وبين الدولة، كعنوان انتماء وهوية وطنية جامعة.