طاجيكستان.. رسائل أميركا إلى روسيا
في وقت تعمل روسيا على تعزيز تعاونها العسكري مع دول آسيا الوسطى، في إطار منظمة الأمن الجماعي، وتكتلات إقليمية أخرى، تنوي الولايات المتحدة متابعة توطيد تعاونها العسكري مع تلك الدول. حيث أعلنت قبل أيام، عن انطلاق التدريبات العسكرية "التعاون الإقليمي 22"، بين 10-20 أغسطس/ آب الجاري، برعاية القيادة الوسطى للجيش الأميركي، ومشاركة عسكريين من كازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان وباكستان ومنغوليا وطاجيكستان. وتهدف المناورات إلى تعزيز العمليات متعدّدة الجنسيات لضمان الاستقرار، ومكافحة الإرهاب، وتطوير التعاون والقدرات المشتركة بين دول وسط وجنوب آسيا والولايات المتحدة، ودول أخرى.
صحيح أن هذه التدريبات يجري تنظيمها منذ عام 2011، إلا أن توقيت تجدّدها هذه المرّة يحمل دلالات ورسائل أميركية إلى أكثر من جهة. وكانت الولايات المتحدة قد أعلنت في مايو/ أيار أنها سترصد لطاجيكستان أكثر من 60 مليون دولار على مدى العامين المقبلين "مساعدة لقطاع الأمن"، وذلك بعد أن تلقت دوشانبيه من واشنطن منذ أكتوبر/ تشرين أول 2021، معدّات ومركبات بقيمة 3,7 ملايين دولار "لاستخدامها في تعزيز الحدود". والواضح اليوم، سعي كل دولة من الدول المشاركة إلى تحقيق مصالحها الخاصة، من خلال هذه التدريبات العسكرية التي تنظمها الولايات المتحدة في طاجيكستان، وموسكو معنية بشكل أساسي بعدم إغفال ذلك.
حقيقة اهتمام واشنطن بإجراء مناورات عسكرية في آسيا الوسطى واضحة للغاية، لا سيما أنها تأتي بعد مرور عام على سحب الولايات المتحدة قواتها من أفغانستان، وهذا أثّر بشكل خطير على مواقفها في المنطقة، والآن باتت بحاجة إلى إعادة تأهيل بين دول المنطقة، لا سيما بعد بدء حرب العقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا. أما بالنسبة للدول السوفييتية السابقة، فكل منها يحاول اتّباع سياسة خارجية متعدّدة الأطراف، وهذا من بين أسباب أخرى لاهتمامهم أيضًا بمثل هذا التعاون مع واشنطن، بالإضافة إلى محاولتهم الظهور بموقف الحياد حيال ما يجري في أوكرانيا.
أوضحت الولايات المتحدة، بالفعل، أنها تعتبر آسيا الوسطى، وطاجيكستان خصوصًا، بلد عبور محتملًا للبضائع الخاضعة للعقوبات إلى روسيا
تخشى طاجيكستان عقوبات غربية ثانوية، قد تطاول الدول التي دعمت علنًا روسيا في أوكرانيا. وقد أوضحت الولايات المتحدة، بالفعل، أنها تعتبر آسيا الوسطى، وطاجيكستان خصوصًا، بلد عبور محتملًا للبضائع الخاضعة للعقوبات إلى روسيا، ما يعني أنهم يحتفظون بالحق في توسيع نطاق نظام العقوبات على الذين سيشاركون في إعادة تصدير المنتجات المحظورة إلى روسيا، وتنطبق القيود على المنتجات التي يمكن أن تستخدمها روسيا لأغراض عسكرية، وكون طاجيكستان مدرجة في هذه القائمة، يعني أن العمليات التجارية والاقتصادية للجمهورية تخضع للرقابة الخارجية، وقد تؤدي إلى عواقب سلبية على البلد السوفييتي السابق الفقير.
ترجع رغبة دوشانبيه بتأكيد حيادها، من بين أمور أخرى، إلى المخاوف من فقدان المساعدة الاقتصادية الأميركية، من إبريل/ نيسان إلى يونيو/ حزيران 2022، زار أربعة مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى طاجيكستان ضمن جولات في آسيا الوسطى: نائب وزير الخارجية عزرا زيا، والممثل الأميركي الخاص لأفغانستان توماس ويست، ومساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون جنوب ووسط آسيا دونالد لو، الذي ضمّ وفده مسؤولين كبارًا، وفي جميع الاجتماعات، بالإضافة إلى المواضيع التقليدية لجدول الأعمال الأمني الحالي، أثيرت قضايا تقديم مزيد من المساعدة الاقتصادية لدوشانبيه، من خلال بناء روابط مع طاجيكستان، وفي الوقت نفسه، السيطرة على التجارة الخارجية للبلاد مع شريكها الرئيسي، حيث تسعى واشنطن إلى الحد من استقلال الجمهورية على المسار الروسي.
ويأتي الاهتمام الأميركي ــ الغربي في تعزيز التعاون العسكري مع بلدان آسيا الوسطى لأهداف كثيرة، منها: أولاً، المساعدات العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة والحلف الأطلسي لبلدان آسيا الوسطى تعزّز موقف الغرب الجيوسياسي في آسيا الوسطى، والمعروف أن طاجيكستان من بين أفقر بلدان المنطقة. وعلى رغم محدوديته، يشكل التعاون العسكري التقني مع الأميركيين والأوروبيين أهمية قصوى لدوشانبيه، كما بالنسبة إلى أميركا، فقد تكون جمهوريات تلك المنطقة نقاط عبور مهمة في المراحل المقبلة، ليس فقط بخصوص أفغانستان، لا سيما أن الواقع يرجّح تحوّل المنطقة الى بؤر لصراعات عرقية.
الصين باتت منافساً جيوسياسياً كبيراً لواشنطن وبروكسل في الفضاء الأوروآسيوي
ثانياً، يتولّى الأميركيون بناء مراكز التدريب والمنشآت الأخرى وتجهيزها، لإيجاد بلدان معتمدة على واشنطن في المسائل التقنية، وتوريد المعدّات العسكرية، وسيأتي المدرّبون الأميركيون الذين سيحاولون ليس نقل المعارف والمهارات والخبرات فحسب، ولكن أيضاً كسب مؤيدين في مواجهة قويّة للتوجه المعادي للغرب والمؤيد لروسيا أو الصين، في محاولة لفك ارتباط هذه الدول المتواصل مع موسكو.
ثالثاً، العامل الصيني، فالصين باتت منافساً جيوسياسياً كبيراً لواشنطن وبروكسل في الفضاء الأوروآسيوي. مع ذلك، نشاط الولايات المتحدة والحلف الأطلسي في آسيا الوسطى ينبغي، أولاً، أن يزعج روسيا، كونه سيؤدي إلى إضعاف نفوذها في المنطقة، حيث لا تزال روسيا تحتفظ بمكانتها شريكاً جذاباً للغاية لطاجيكستان في مجال التعاون التجاري والاقتصادي والعسكري والثقافي والإنساني والطاقة. كما تتمتع روسيا اليوم بميزة جدّية جديدة في المنطقة على واشنطن، وهي أن لديها اتصالات جيدة جدًّا مع حركة طالبان، تمكّنت موسكو من خلالها من التفاوض معهم حول قضايا عديدة.
يبقى القول إن اعتماد طاجيكستان على الإعانات الخارجية، إلى جانب انخفاض مستوى المعيشة فيها، يجعلها عرضة للتهديدات الجيوسياسية، ويجبر القيادة الطاجيكية على المناورة وتجنّب الزوايا الحادّة في العلاقات مع شركائها الرئيسيين.