ضع الثورة على لسانك ونفّذ انقلابك

27 أكتوبر 2021
+ الخط -

حاكم عربي آخر ينفذ انقلاباً على سلطة يرأسها. يقتل الثورة لكي يحسّن من أدائها، ثم يشعر بإهانةٍ لا توصف حين يُقال إن ما أقدم عليه انقلاب عسكري. الحاكم الانقلابي، في السودان، عسكري، بينما هو مدني متحالف مع العسكر في تونس. في السودان، مرّت أشهر والحاكم العسكري يكاد يقسم على أنه سينفذ انقلابه لكي يتخلّص من عبء مدنيين فرضت الثورة وجودهم في السلطة، بشراكةٍ مزعومة، وكأن البلد شركة. في الأمس أرغمت الثورة الجيش على إطاحة عمر البشير (بعد خمسة أشهر من قتل المتظاهرين واضطهادهم)، وهو من العسكر والعسكر منه، وفرضت على هؤلاء تعيين رئيس حكومة مدني. أجبرهم الضغط على القبول بوثيقة دستورية كان يجب أن تكون بمثابة دستور مؤقت إلى حين إجراء انتخابات تشريعية صيف 2023. قَبِل الحاكم العسكري بهذا كله على مضض في البداية، لكنه، عندما فكّر بالأمر ملياً، ضحك في سرّه وتساءل: لمَ لا؟ نعلن كل ما يخطر على البال الديمقراطي، ثم نضع وزراء عسكريين من عندنا في أرفع الوزارات وأخطرها، ونربط أيدي المدنيين وأرجلهم بشكل نجعلهم فيه عاجزين عن العمل، ونحرم الموازنة العامة من عائدات شركات الجيش، ونتسبب بفشل اقتصادي رهيب في بلد كان يُطعم قارّة بحجم أفريقياً. نخبر الناس أن مفتاح البحبوحة يكمن في التطبيع مع إسرائيل لكي ترضى أميركا عنا وتلغي العقوبات المفروضة علينا بسبب ماضٍ إرهابي، ثم نقيم القيامة شرقي السودان ونحرّض على إغلاق المنطقة عبر مجلس نظارات البجا. نحرق البلد ونتهم المدنيين بإحراقه، يصبح الانقلاب مطلباً شعبياً، فيحصل ما حصل بالفعل.
في هذه السيرة المقتضبة التي دامت عامين، وصلت هدايا بالجملة إلى العسكر من المدنيين: انعدام كفاءة استثنائي في الاقتصاد والإدارة. انشقاقات متلاحقة في صفوف هؤلاء، وخلط غير مبرّر بين المبدئية وضرورات إبرام التسويات في مرحلة انتقالية لبلد متخلف اقتصادياً، تغلب عليه البيئة العشائرية، صاحب تجربة حزبية كانت راسخة، وقد توفيت منذ عقود وصارت قاصرة عن مخاطبة الناس وتنظيمهم في برامج تحاكي مصالحهم. موافقة على تأدية أدوار ماسح القذارة عن ممارسات العسكر. تعميم نَفَس انتقامي يشبه أجواء الاجتثاث من خلال "لجنة إزالة التمكين". تعويل مطلق على أميركا والغرب في انتشال البلد من كارثته الاقتصادية، وبين هذا وذاك، قبول بقواعد اللعبة التي وضعها العسكر ولعبها عامين، وعدم التجرؤ على اللجوء إلى الناس عبر إجراء انتخابات قبل موعدها المقرّر منتصف 2023، وتصديق سخيف للتطمينات العسكرية.
النسخة الحالية من الانقلاب السوداني مختلفة عما سبقها. فيها، يخترع مرتكبها قاموساً سياسياً جديداً، لا وجود فيه لكلمة انقلاب، بل لـ"تصحيح مسار"، ولـ"ثورة تصحيحية"، ولـ"تنظيف الثورة من الشوائب"... هو قاموس وضعت لبناته الأولى الأنظمة البعثية والناصرية منذ أولى سنوات ما بعد استقلال البلدان العربية. بفضل ذلك القاموس، يمكن لعبد الفتاح البرهان القول براحة ضمير إنه قام بالانقلاب "بسبب الانقسامات في صفوف المعسكر المدني". فيه يتجرّأ الرجل على تسمية المؤسسة العسكرية أنها "مؤسِّسة الفترة الانتقالية". في قاموس الانقلاب السوداني، كحال الانقلاب التونسي لقيس سعيّد وعسكره، تركيز استثنائي على محاربة مصطلحَي الأحزاب والسياسة: تقرأ في بيان البرهان ما معناه: لن نسمح لحزب معيّن بفعل كذا، ولن يسيطر أي حزب على "السودان الجديد"، والحق هو على تكالب القوى السياسية على السلطة، والحكومة المقبلة لن تتألف من ممثلي أحزاب، وسنشكل برلماناً ثورياً من الشباب... كل شيء لا سياسة فيه. "سنؤلف حكومةً مدنية من الكفاءات"، يقول البرهان. السياسة للجيش إذاً، والإخفاق الاقتصادي والإداري للمدنيين.
في زمن عبد الفتاح البرهان ومحمد حميدتي وقيس سعيّد، صار يمكن وضع الثورة على اللسان، فتصبح الانقلابات حلالاً.