ضجيج وديمقراطية في لندن

09 يوليو 2022

بوريس جونسون يعلن استقالته أمام مقر رئاسة الوزراء في لندن (7/7/2022/Getty)

+ الخط -

لم يكن بوريس جونسون مجرّد رئيس وزراء بريطاني يستقيل بسبب الفضائح المتلاحقة، بقدر ما كان نموذجاً لنقص الشخصيات القيادية في بريطانيا، أو لجهة تحوّل المملكة إلى بلادٍ تضم جيلا مختلفا من القادة الذين عرفتهم سابقاً. لم يكن مطلوباً من جونسون أن يكون شبيهاً لأسلافه، ولا التفاخر بأرستقراطية إنكليزية. جل ما كان يريده الشعب البريطاني عدم الكذب. امتطى جونسون جواداً لا يمكن اللحاق به في انتخابات عام 2019. سوّق نفسه صانعاً "بريكست"، وبطل قومية متجدّدة في الجزيرة، القريبة جغرافياً من القارة الأوروبية والبعيدة عنها في العقل التجاري والسياسي. أراد التأكيد أن بريطانيا أكبر من "التقوقع" في اتحاد أوروبي يعاني من أزماتٍ اقتصادية متلاحقة، رغم تنوّعه. لم تكن الأزمة اليونانية وحيدة في هذا الصدد.

كانت انتفاضته وحصده أرقاماً تاريخية لمصلحة "المحافظين" في انتخابات 2019 أشبه بتكرار لسيرة وينستون تشرشل ومارغريت تاتشر، التي تعدّ عرّابته السياسية. وفي توجّهه نحو العالم الأميركي، أيام صديقه الرئيس السابق دونالد ترامب، إعادة لتحالف وثيق بين لندن وواشنطن، وكأن خطاب تشرشل المفصلي في الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) تجدّد في باله مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. في الحرب، توجّس البريطانيون من احتمال غزو ألمانيا النازية جزيرتهم، فقال تشرشل: "إمبراطوريتنا عبر البحار التي تحميها البحرية البريطانية ستواصل الكفاح، حتى يأذن الله للعالم الجديد، بكل قوته وقدرته، أن يتقدّم لإنقاذ العالم القديم وتحريره".

جونسون، وبمزيج من عفوية بريطانية مولودة في أحياء المصانع في ليفربول ولندن وبرمنغهام ومانشستر وغيرها، ومن أسلوب سياسي غير تقليدي، حسب ما قدّم نفسه، استسلم لمسلسل الفضائح المتلاحقة من دون الاعتراف بانعكاسها السلبي عليه. وبات الكذب هنا مفتاحاً للهروب. لكن الكذب، الذي تحوّل إلى عادة مدفوعة بمحاولة تغطية أخطاء جمّة، انقلب عليه في أكثر لحظة سوداوية في حياته السياسية. لم يستوعب جونسون، في البداية، فداحة ما حصل. حاول التبرير والتمسّك بالسلطة وعدم الاستقالة، في غياب جزر فوكلاند أخرى يرسل قواته إليها ليتحوّل بطلاً، كما فعلت تاتشر في عام 1982، وفي انعدام وجود خصم سياسي – عسكري، مثل "الجيش الجمهوري الأيرلندي" يهدّد "وحدة" الإمبراطورية الأقوى شرقي الأطلسي، فيقمعها في شوارع بلفاست. وحدها روسيا قدّمت له خصماً خارجياً، أشبه بالسوفييت زمن تاتشر، لكنها لم تكن كافية لتغيير معادلة داخلية.

أمران تُمكن مراقبتهما بهدوء في ضجيج لندن. الأول، مدى قدرة البريطانيين على تجاوز جونسون واختيار خلفٍ له، ومعالجة الوضع الاقتصادي المتأثر بإفرازات وباء كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا. مع عدم تأثر سياستهم الخارجية بما يحصل في الداخل، على اعتبار أن الوحدة في الملفات الخارجية أساسية كفكرة بريطانية نشأت على استعمار دول في آسيا وأفريقيا والأميركتين. الثاني، تمرير هذه المرحلة وفقاً لمفاهيم قانونية ونظامية معمول بها في بريطانيا.

تخيّلوا لو كان جونسون، وقبله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في دولة غير ديمقراطية، لكانت حرباً أهلية طاحنة تدور رحاها في باريس ولندن. ولكانت الدساتير مجرّد ورق محارم رخيص يُستخدم في وقت الحاجة، من دون اكتراث لمصالح المواطنين، أعمدة الدولة. تخيّلوا أنه يُمكن التوجه بنعوت واتهامات لأي مسؤول في بريطانيا، من دون التعرّض لاعتداءات ليلية تُشبه ما يحصل في دولنا العربية.

نعم، الديمقراطية البريطانية جزء من ديمقراطية غربية مصنوعة بمعظمها بدماء الحروب العالمية والاستعمار، إلا أنها أيضاً، في حدّها الأدنى، تتيح المجال لكل شخص لإبداء رأيه، ولو عكس السياسة العامة لبلاده. ويسمح هذا التطور الديمقراطي بنشوء أجيال قادرة على محاسبة آبائها بسبب موقف سلبي تجاه مطلق قضية داخلية أو خارجية. جونسون كان بطلاً بـ66% من أصوات الناخبين، قبل أن يتهاوى. فلو كانت الديمقراطية ابنة الجمود، لكان بوريس عريس بريطانيا الأزلي.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".