صورة لقاع الهند

24 مايو 2021
+ الخط -

"هناك حقيقة واحدة عن الهند: أنّك تستطيع أن تأخذ أيّ شيء تسمعه من رئيس الوزراء عن البلاد ثم تعكسه، فتحصل على الحقيقة"... من رواية "النمر الأبيض" للكاتب الهندي، آرافيند آديغا. يمكن أن يفسر هذا المقطع، بشكلٍ ما، ما عانته الهند جرّاء وباء كورونا، بسبب الحسابات الخاطئة للحكومة الهندية، حين فتحت مجال الحركة عن آخره في بلدٍ ملياري، التباعد فيه شبه مستحيل، فما بالك بالسماح بحرية الحركة، وعلى ذلك الشكل الذي تمت فيه، حين سمح حتى بممارسة الشعائر الدينية بحريةٍ كاملة؟ وهو الأمر الذي نتجت عنه كارثة حقيقية، ووضع لا تمكن السيطرة عليه، إذ بلغ حدوداً قصوى في الإصابات، إلى جانب ألوف الوفيات يومياً، إلى درجة أن تصبح الهند المهدّد الرئيس للعالم في عودة رعب كورونا إلى نقطة البداية، عبر تصدير فيروس متحوّر، خلط أوراق كلّ المجهودات الطبية السابقة، ويهدّد بتقويض ما حققه العلم من قفزةٍ في التغلب على فيروس العصر الذي أوقف سير الحياة، وخنقها ثلاث سنوات. نستطيع، من خلال هذا الوضع، أن نتأكّد مما يشكله الفساد السياسي من خطر عالمي، فعن طريق ما حدث في الهند من انعكاسات هذا الفساد أصبح العالم مهدّداً في صحته. وتأييد الحكومة الهندية أفعال إسرائيل الإجرامية خير دليل على ذلك الانحراف الإنساني.
تعكس رواية "النمر الأبيض" حال الهند بكلّ طبقاتها، خصوصاً الطبقة السياسية التي توظف الخرافة والتخلف والفقر، إذ تبرز هذه الأنماط الاجتماعية الوبائية، باعتبارها الجسور الأساسية للوصول إلى المآرب السياسية. وكأنّما تعتمد كلّ حكومة وطبقة سياسية على تكريس التخلف والفساد من أجل الحفاظ على الصورة السياسية، وإن بدت ديمقراطية في الشكل، إلا أنّها في الجوهر محتكرة لعائلات وطبقات بعينها، يتزاوج فيها المال بالسياسة زواجاً (هندوسياً) لا فصام فيه.
وعلى الرغم من أنّ الرواية كُتبت حسب المزاج الغربي، وذلك بالحرص على إظهار ما يمكن للغرب أن يؤكّد فيه تفوقه الحضاري على الدولة الأكثر تمثيلاً للعالم الثالث، فاقم الاستعمار الإنكليزي الطبقية في الهند، على الرغم من ادّعائه الظاهر أنّه ما جاء إلا للإصلاح، ودفع الهند إلى ركب الحضارة، لكنّ هذه الحضارة كانت شكلية، مثل إيجاد نوعٍ من التمثيل البرلماني الذي لم يكن، في العمق، سوى مستنقع للفساد. وهذا ما ذهبت إليه الباحثة الهندية، غياتري سبيفاك، في معظم أبحاثها المتعلقة بدراسات ما بعد الكولونيالية.
وقد حاولت "النمر الأبيض" تفكيك هذا البناء الذي تقوم عليه الطبقة الحاكمة في الهند، والتي حظيت بقدر من التعليم واحتكار المال، فاستحوذت على خريطة تحريك المال في شبه القارة الواسعة. وتحولت الرواية إلى فيلم غاية في المتعة، حمل اسم الرواية نفسه، لكنّه تركزَ أكثر على تصوير دواعي الطبقية المتفاقمة في الهند، من خلال عائلةٍ ثريةٍ يعمل فيها سائق يتم التسليط عليه، وعلى تقلبات حياته مع هذه العائلة التي تتميز بالثراء، لكن، كذلك بالفساد الذي لم يردعها عن فعل أيّ شيء، إذ سنرى، مثلاً، أنّ زوجة ابن الرجل الثري تدهس طفلاً، فيتم إقناع السائق، تحت الإغراء والتهديد، بأن يوقع على ورقةٍ تثبت أنّه هو من كان يقود السيارة، ستكون هذه الورقة ماثلةً لو اهتمت الشرطة بالبحث عن القاتل، وهو ما لم يحدث. وهذه العائلة الثرية، جاءت في الرواية نموذجاً لشريحة أوسع، تعتمد على الرشوة في تسيير أمور حياتها، خصوصاً في كلّ ما يتعلق بالتواصل مع السلطة والحكومة، وترشيح سلالتها للانتخابات وتسخير المال والعنف في تسهيل أمورها.
نال كاتب "النمر الأبيض" آرافيند آديغا، بسببها جائزة مان بوكر للروايات المكتوبة بالإنكليزية. وهي في بنيتها المباشرة رسالة يوجهها البطل إلى الرئيس الصيني، وقد سمع من الأخبار الرسمية أنّ هذا الرئيس يزمع زيارة الهند، وكأنّما يقول له من خلال الرواية: يا سيدي الرئيس، لن ترى في زيارتك الهند إلا ما يرغب لك رئيس الوزراء الهندي وحكومته أن تراه. الهند الحقيقية هي هذه التي أخبرك عنها الآن. وهكذا تستمر الرواية، ثم الفيلم، في حديث طويل شائق، مفاجئ مليء بالأحداث. على الرغم من أنّ الفيلم حاول أن يجاري الرواية، لكنّه لم يستطع أن يعكس سوى ملخصٍ بسيط عن تلك العوالم التي أبدعت الرواية في وصفها بدقة متناهية.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي