صدقتَ يا جنرال
لم يبتعد رئيس مجلس السيادة السوداني، الجنرال عبدالفتاح البرهان، عن الحقيقة حين قال "لا يوجد عسكري ينفذ انقلابا والسياسيون هم من ينفذون الانقلابات"، كما أنّ "الانقلابات العسكرية في السودان يتحمّل مسؤوليتها السياسيون وليس الجيش".
صدق الرجل في هذه الجزئية، بالنظر إلى أنّ طبيعة الانقلابات العربية في العشرية الأخيرة تغيّرت على نحوٍ يختلف تمامًا مع بنية الانقلابات العسكرية الصريحة في القرن الماضي، بحيث يمكن القول إنّ نجاح الانقلابات حاليًا بات يتطلّب نسبة معتبرة من المكوّنات المدنية، تُستخدم طلاءً مؤقتًا للواجهة أو محللًا شعبيًا لتمرير الانقلاب، ثم ينتهي دورها عند النقطة التي يشعر معها الحاكم الجديد بأنها استنفدت صلاحيتها.
على أنّ ثمة ملمحًا آخر تجده في طبيعة الانقلابات الحديثة، إذ من الوارد أن تجد المكوّن المدني أكثر شراسة وحماسة لعسكرة الحياة السياسية أكثر من العسكريين أنفسهم، حيث تتخذ الرغبة في الإقصاء والانتقام من المنافسين المدنيين شكلًا أعنف كثيرًا من ممارسات العسكريين، أو في أحيان أخرى يكون هؤلاء المدنيون الفاشيون جاهزين لتوفير الغطاء المدني للجرائم والمذابح التي تُقدم عليها السلطات العسكرية لتثبيت أركان حكمها.
في الحالة المصرية، يحرص الجنرال عبد الفتاح السيسي، طوال الوقت، على تكرار مقولة إنّ الجيش فعل ما فعله استجابة لنداء من القوى السياسية التي استغاثت به للتخلّص من شبح الدولة المدنية، كما أنه، لا هو، ولا الجيش، كانا يرغبان في السلطة، لولا أنّ القوى المدنية التي تقود الجماهير فوّضته لإنقاذ البلاد.
في هذا الصدد، أتذكّر كيف كان رئيس الحكومة بعد انقلاب 2013، حازم الببلاوي، يبدو أكثر توّحشًا من العسكريين، وهو يبرّر تنفيذ مذابح بحق المعتصمين ضد الانقلاب، وفي ذلك روى النائبان الأميركيان، جون ماكين وليندسي وغراهام، في حديث إلى "نيويورك تايمز" عقب زيارتهما الأولى للقاهرة للبحث عن حل بعد الانقلاب، أنّ سلطة السيسي كانت حريصةً على قطع الطريق أمام أي محاولة لتفادي المجازر الدموية (التي أتت فيما بعد بمجزرتي ميداني رابعة العدوية والنهضة). يقول غراهام في المقابلة التي ترجمتها الصحف المصرية "وقال جراهام في مقابلة: "كان رئيس الوزراء كارثة، استمر في توجيه الوعظ لي، وقال لي: أنت لا تستطيع التفاوض مع هؤلاء الناس، كان بإمكانهم الخروج من الشوارع، واحترام سيادة القانون، فقلت له: السيد رئيس الوزراء، من الصعب جدا أن تحاضر أي شخص عن حكم القانون. كم عدد الأصوات التي حصلت عليها؟ أوه، نعم، لم يكن لديك انتخابات". ويضيف "كان الاجتماع مع رئيس الوزراء (حازم الببلاوى) أكثر توتّرا، فعند خروجهم قال (غراهام) لماكين: "إذا كان صوت هذا الشخص دلالة على السلوك، فلا يوجد مخرج من هذا الأمر".
كان الببلاوي قد سئل في حوار مع قناة ABC الأميركية، بعد أسبوعين من مذبحة رابعة العدوية عن مقتل ألف من معتصمي رابعة (حسب تقديرات حكومية)، فكان ردّه إنّ هناك أوقات استثنائية يمكن أن تُرتكب فيها أعمال وحشية، وشبّه ذلك بما فعلته الولايات المتحدة في فيتنام والحرب العالمية الثانية من قتل مئات الآلاف، وهو ما علقت عليه المذيعة فيما بعد قائلة "إنها مقارنة مذهلة وبشعة، لكنه أخبرني أنه لا يشعر بأي تأنيب ضمير ولن يتراجع".
الشاهد أنّ الطاغية لا يولد وبيده حقيبة صغيرة تحوي أدوات الاستبداد، هو فقط يكون مسكونًا بالرغبة في الاستبداد، فيما تلعب النخب السياسية الدور الأعظم في ترسيمه مستبدًا، وتعميده طاغيًة. ودعني أكرّر السؤال: هل كان عبد الفتاح السيسي يُقدم على خطوة طلب التفويض بممارسة القمع والدكتاتورية، وصولًا إلى اتخاذه الدستور ملكية خاصة به، لولا أنّ مثقفين وسياسيين أظهروا أمامه نزوعًا أكبر من نزوعه الشخصي نحو الاستبداد والإقصاء والإبادة؟. هل كان يمكن أن يذهب إلى الانقلاب بكلّ هذه الثقة لولا أنّ فاشيست الثقافة والسياسة كانوا يناضلون من أجل إقناع الجماهير بتحرير توكيلاتٍ أمام الجهات الرسمية لتفويضه بالانقلاب على الرئيس المدني؟
للأسف، صدق عبد الفتاح البرهان.