شمس الأحلام تشرق من المغرب
فاز المغرب على بلجيكا ثم كندا، وتعادل مع كرواتيا ثم تفوّق على إسبانيا والبرتغال، وعبر لأول مرة في تاريخ العرب وأفريقيا إلى الدور قبل النهائي في كأس العالم، لتواجه فرنسا والتي هي في المتناول كسابقاتها.
قبل ذلك، هزمت السعودية الأرجنتين وتغلبت تونس على فرنسا، وهذه النتائج، كما قلت وقتها، إن من المفترض أن ترفع سقف الطموحات العربية في مونديالات مقبلة، ومن المهم الآن أن ننضج نفسيًا، نحن العرب، ولا ننظر مستقبلًا إلى مثل هذه الانتصارات بوصفها مفاجآت أو غرائب وطرائف لا تتكرّر.. نعم نستطيع.
غير أن المنتخب المغربي لم ينتظر مونديالات مقبلة، وقرّر أن يعلو بسقف الطموح إلى ملامسة السماء، فكان عن جدارة ومهارة سفيرًا للأحلام العربية والأفريقية لانتزاع اللقب المونديالي، لأول مرّة، من محتكريه التاريخيين.
ما حقّقه المغرب ليس مجرّد إنجاز رياضي غير مسبوق، كما أنه ليس فقط وصولًا لأداء رفيع ومبهر في فنون كرة القدم، فقد فعلها كثيرًا في أزمنة مضت، وأذهل العالم بمستوياته في جيل عزيز بودربالة وبادو الزاكي. ولذلك، الإنجاز الحقيقي، هذه المرّة، هو العبور النفسي لحاجز الأحلام المتواضعة، وصولًا إلى اجتراح الحلم بحدّه الأقصى، ممارسةً ورغبةً في بلوغ منتهاه، من دون الاكتفاء بالبقاء في قوقعة التمثيل المشرّف.
أنت هنا أمام إنجاز حضاري وثقافي للذات العربية التي قرّرت أولًا أن تؤمن بقدراتها، وثانيًا أن تستخرج هذه القدرات المخبوءة تحت ركام اليأس والتواضع والإحساس بشيءٍ من الدونية أمام الغرب المنتفخ بأوهام التفوّق العرقي، ثم أخيرًا وليس آخرًا قرّرت أن تمتلك الأدوات التي توظف هذه القدرات من أجل صناعة المستحيل، من وجهة نظر أصحاب نظرية الحد الأدنى في الحلم. شخصيًا، قبل أن تنطلق مواجهة المغرب والبرتغال، داهمني مسّ من الجبن الحضاري، حين تراجعت عن نشر سطور تتحدّث عن فوز الفريق العربي، فكتبت "كما فعلها منتخب شعب المغرب الشقيق مع إسبانيا، يستطيع أن يكرّر الانتصار في مباراة البرتغال اليوم، لأنه رقميًا وواقعيًا إسبانيا أقوى من البرتغال، وكما قلت قبل مباراة ثُمن النهائي ضد إسبانيا. بهذا الأداء وهذه المجموعة من اللاعبين المحترفين، وهذه الروح الواثقة، منتخب شعب المغرب الشقيق مؤهل للوصول إلى ما هو أبعد من ربع النهائي وأكرّرها قبل مباراة البرتغال اليوم: ننتظر المزيد في نصف النهائي بإذن الله".
شيءٌ ما دفعني إلى التراجع عن نشر هذه الكلمات، أظنّه ذلك الذي يمكن أن تصفه بأنه أوهام العجز التي تعشّش في الذات العربية فتمنعها من الحلم بالحدود القصوى، على الرغم من أننا نردّد، طوال الوقت، أننا نستطيع. ومن هنا تأتي عبقرية الفريق المغربي الذي استطاع أفراده ومدرّبه تجاوز هذه العقدة، أو هذه الأوهام، والتحليق إلى أقصى ارتفاع، بالضبط كما فعل اللاعب يوسف النصيري بارتقائه الأسطوري لتسجيل هدف الانتصار في مرمى البرتغال.
ما فعله الفريق المغربي على ملاعب قطر هو ذاته ما فعلته قطر خارج الملاعب منذ أكثر من عشر سنوات، حين قرّرت أن ترتقي بمستوى الحلم إلى أعلى ارتفاعٍ ممكن، مدفوعة بالثقة في امتلاكها القدرات اللازمة، وامتلاك القدرة على استخراج هذه القدرات وإدارتها وتوظيفها لانتزاع ملفّ تنظيم المونديال، ثم مواجهة عواصف عنصرية شديدة طوال عقد من أجل حرمانها، وحرمان الإنسان العربي عمومًا، من حقه في المنافسة على تقديم نسخة تاريخية من كأس العالم.
حتى بعد أن تأهّبت الدوحة للحدث التاريخي، وبعد وصول الفرق المتنافسة على الكأس، لم تتوقف حملات التشكيك والتحريض، إذ كيف يتجرّأ بلد عربي ويحطّم التصوّرات الاستعلائية المعلبة ويطيح التابوهات الثقافية المغلقة على أفكار وصور نمطية من إنتاج عقليةٍ عنصريةٍ لا تريد أن ترى العالم خارجها كما هو، وليس كما تحب أن تراه.
ما أنجزه لاعبو الفريق المغربي في كرة القدم، يستطيع العرب إنجازه في السياسة وفي التعليم وفي كل مجال، لولا أنهم مربوطون في سلاسل القهر والاستبداد، المكلفة بمهمة وحيدة، مصادرة حق الشعوب في الحلم. ولذلك أكرّر إن كرة القدم صارت المنجز الحضاري الوحيد للعرب، لأنها ببساطة أقوى من أي سلطة مستبدّة. سنواصل الحلم مع هؤلاء اللاعبين الأفذاذ الذين أثبتوا أن شمس الأحلام يمكن أن تشرق من المغرب.