شعبويّات أردنية
الأردنيون في استطلاعات "المؤشّر العربي" (ينجزها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) سنوياً هم أول العرب في قلّة الثقة ببرلمانات بلادهم، وإنْ تحسَّنت هذه الثقة (بدرجةٍ كبيرة وإلى حدّ ما) من 32% في استطلاع العام 2011 إلى 46% في استطلاع 2022، فضلاً عن أن ثقة الأردنيين ببرلمانهم هي الأدنى بعد ثقتهم بكلٍّ من المخابرات والجيش والأمن والحكومة، وقد أكّد استطلاعٌ لمركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية نُشر في ديسمبر/ كانون الأول 2021 المُعطى نفسَه. وإذ تُستعاد هذه الحقيقة في أجواء الحملة الجارية لانتخابات مجلس النواب المقرّرة في 10 الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول)، فالملحوظ أمران: أولهما، أنّ لموضوع هذه الانتخابات حصّةً كبرى في أحاديث الأردنيين في مضافاتهم وفي المقاهي ومناسباتهم الاجتماعية. ما يعني عدم صواب تقارير إعلاميةٍ سيّارةٍ عن قلّة اكتراثهم بالأمر كله. وثانيهما، أنّ غالبيةً كبرى منهم تجهر بعدم نيّة المشاركة في الاقتراع، لقناعتهم بأن الانتخابات منتهية، وأن أسماء الفائزين معلومة، وأن الدولة رتّبت المقاعد ووزّعتها بالكيفية التي تُريد. مع القناعة إيّاها بأن برلماناً من "البصّيمة" سيُضاف إلى سابقيه.
وفيما يُفضي أصحاب هذا الحديث، وهم غالبيّة ظاهرة، به بفائضٍ من الثقة، يتبدّى لك أن كثيرين منهم ليسوا على درايةٍ بكيفيّة الاقتراع بحسب قانون الانتخاب الذي سيُعمل به أول مرّة، ويقوم على انتخاب قائمةٍ حزبيةٍ مغلقة على مستوى الوطن (لانتخاب 41 نائباً حزبياً من 25 قائمة متنافسة)، ومن قائمةٍ أخرى مفتوحةٍ في الدائرة المحلية (لانتخاب 97 نائباً من 174 قائمة في 18 دائرة)، ولا يعرفون، مثلاً، شرط أن تضمّ قوائم الأحزاب امرأتين وشابّاً (أو شابّة) على الأقل، فضلاً عن أن قانون الأحزاب الجديد اشترط نسبة 20% من النساء والشباب بين مؤسّسي أي حزب. وفي الأثناء، تعلو مقادير من السخرية على صور المرشّحين المنتشرة (بإفراط) في الشوارع والميادين والأرصفة، واستدعاء سِير هذا وذاك منهم للتدليل على نقصان كفاءاتهم لعملٍ نيابيٍّ جدّي. وليس الذين يأتون على هذا الكلام عن تزبيط "الأجهزة" (مفردة تُحيل غالباً إلى المخابرات) نتائج الانتخابات من عوامّ الأردنيين وفئاتهم الدنيا أو ذوي التعليم المحدود فقط، فثمّة عديدون يقولون هذا، مشتغلون في العمل العام والإعلام والنشاط المدني، وجمهرة من سياسيين ومثقفين أصحاب رأي، وبعضٌ ليس قليلاً منهم كان في مواقع مسؤولة، وبعضٌ آخر على صلةٍ بدوائر قريبة من صنّاع القرار.
لقائل أن يقول إن سياساتٍ للدولة الأردنية، منظورة وأخرى غير منظورة، منذ عقود، هي المسؤولة عن هذا الحال، المؤسِف أياً كانت تفسيراتُه، وإنْ عُويِن، في العامين الماضيين، تقدّمٌ كبيرٌ في التشريعات الناظمة للانتخابات وللعمل الحزبي، سيّما وأن اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية (2021) أوصت، في طموحٍ معلن، بالوصول تدريجيّاً إلى حكوماتٍ برلمانية، بعد زيادةٍ مطلوبةٍ في عدد النواب الحزبيين في برلمانيْ ما بعد برلمان الشهر المقبل، وهو ما جرى تبنّيه في قوانين أقرّها البرلمان المنصرف، فضلاً عن مساحاتٍ واسعةٍ لمراقبة الانتخابات في مختلف مراحلها محليّا ودوليّا، ومسؤولية هيئةٍ مستقلةٍ تنظيم إجرائها. لقائل أن يقول هذا القول الذي له وجاهتُه، غير أن في الوُسع أن تُقرأ الحالة شاهداً على نفوذ عريضٍ للشعبوية في الشارع الأردني، مغايرةٍ للشعبويّات التقليدية (بتنويعاتها) في أنظمةٍ سياسيةٍ، مشهودة في أميركا اللاتينية وأوروبا، وغير التي تُعايَن في زعاماتٍ شعبوية، فلا النظام في الأردن يتّصف بهذا، وليست في الشارع المحلي زعاماتٌ ذاتُ ملكاتٍ خطابيةٍ وقبولٍ واسعٍ وقدراتٍ على سحر الجمهور بأي كلام.
غالباً ما تخصّص الأنظمة والبنى السياسية الشعبوية، وكذا القياداتُ التي ينهض حضورُها على شعبويتّها، حيّزاً واسعاً من خطاباتها لاستهداف الأحزاب والبرلمانات بتبخسيها، كالقول، مثلا، إنها تبيع الكلام ولا تُنجز شيئاً، غير أنك في الحالة الأردنية ترى أن الناس، في العموم، هي التي تردّد مثل هذا الكلام، يُسعفها في هذا أنها تكادُ لا تعرف شيئاً عن 38 حزباً مرخّصاً في البلد (باستثناء واحدٍ أو اثنيْن)، وأن أداء برلمانيين، روهن عليهم شعبيّاً إلى حدٍّ ما، دلّ على ذيليّتهم للحكومات. وإذ نشطت دراسات الظواهر الشعبويّة أخيرا، وكثُرت ترجمات الكتب الأجنبية التي تشرّحها وتفكّكها، ولمّا صارت ملحوظةً المساهمات العربية التحليلية في هذا الجهد المعرفي، إلا أن هذه الشعبويّات الأردنية بشأن برلمانٍ لمّا يُنتخب بعد تجوزُ مقترحاً لدرسٍ خاص، فمن يفعل؟.