شبح الحرب في البلقان مجدّداً
تتصاعد مجدّداً التوترات بين الأقلية الصربية والحكومة التي يقودها الألبان في كوسوفو، في البلقان، جنوب شرقي أوروبا، المنطقة التي تتداخل فيها تعقيدات التاريخ والجغرافية، مع عرقيات وأديان مختلفة، وهناك مخاوف من اندلاع أعمال عنف بين الصرب والألبان مرّة أخرى بعد 23 عاما من حرب كوسوفو، حيث أثارت التوترات الأخيرة التساؤل عما إذا كانت الحرب ستندلع مجدّداً في البلقان؟
وتصاعدت التوترات وتحوّلت إلى عصيان مدني، حين أرادت حكومة كوسوفو أن تجعل سكان المناطق ذات الأغلبية الصربية يستبدلون لوحات أرقام سياراتهم الصادرة من صربيا بأخرى صادرة من كوسوفو، ولا يستخدم حوالي 50 ألف شخص في هذه المناطق لوحات أرقام كوسوفو، لأنهم يرفضون الاعتراف باستقلال كوسوفو، البلد الصغير غير الساحلي في البلقان على الحدود مع ألبانيا ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود وصربيا، ويعتبره صرب عديدون مهد دولتهم. ويقدّر عدد سكان كوسوفو بقرابة مليوني نسمة، يشكل الألبان نسبة 92% منهم، وتتوزّع النسبة الباقية بين الصرب والبوشناق والأتراك والغجر.
أعلنت كوسوفو استقلالها عن صربيا في عام 2008، وعلى الرغم من أن 117 دولة تعترف بها، إلا أن صربيا لم تعترف بها بعد، كما لا يعترف صرب كوسوفو بسلطة بريشتينا ولا باستقلال كوسوفو، وحافظوا على ولائهم لبلغراد التي يعتمدون عليها مالياً، وهذا هو السبب الرئيس للمشكلات والأزمات القائمة بينهما. وقد سعى الاتحاد الأوروبي منذ عام 2011 إلى إدماج الصرب في كوسوفو في آليات الدولة ضمن إطار "عملية الحوار بين كوسوفو وصربيا"، ونتيجة لجهود الاتحاد الأوروبي ومساعيه، بدأ البلدان محادثاتٍ رفيعة المستوى في عام 2011، وجرى التوقيع على اتفاقيات لحل بعض الخلافات، خصوصاً المتعلقة بالقضايا التقنية. ووفق اتفاقٍ تم التوصل إليه بين الطرفين تحت مسمّى التنقل الحر، حيث لم يجر تنفيذه بالكامل. وبمقتضاه، يمكن للصرب الذين يعيشون في شمال كوسوفو التنقل داخل كوسوفو بسياراتٍ تحمل لوحات ترخيص صادرة عن دولة صربيا، ومع لوحات ترخيص مكتوبة "KS أو RKS" (جمهورية كوسوفو) صادرة عن دولة كوسوفو، ويرجع التوتر الأخير على الحدود الكوسوفية - الصربية، أواخر يوليو/ تموز الماضي، إلى هذا القرار الصادر في 2011.
أحدث التوتر الحدودي في المناطق التي تقطنها أغلبية صربية مخاوف من احتمال اشتعال حرب
وأعلنت حكومة كوسوفو أن مدة سريان الاتفاقية الموقعة في عام 2011 قد انتهت، وأنه سيجرى تطبيق نظام "اللوحة الواحدة" داخل البلاد. بعبارة أخرى، سيتعيّن على صرب كوسوفو استخدام لوحات ترخيص صادرة عن دولة كوسوفو فقط. ووفقاً للقرار الخاص بلوحات ترخيص المركبات، سيتعيّن على هؤلاء استخدام بطاقات إثبات هوية ولوحات ترخيص صادرة عن حكومة كوسوفو، بدلاً من بطاقات إثبات الهوية ولوحات الترخيص الصادرة عن السلطات الصربية. وشدّدت حكومة كوسوفو على أن بلادها دولة مساوية تماماً لدولة صربيا. وبناءً عليه، سيطبّقون على صربيا كل قرار تطبقه على كوسوفو، انطلاقاً من مبدأ المعاملة بالمثل، وتتطابق هذه السياسة مع سياسةٍ طويلة الأمد تفرضها بلغراد على مواطني كوسوفو الذين يزورون صربيا.
تدرك صربيا أن كل تطبيق تقنيّ تنفّذه كوسوفو قد يؤدّي إلى فقدانها نفوذها على الصرب الذين يعيشون في كوسوفو، ويقرّبها أكثر من الاعتراف بكوسوفو، وسيزيد الضغط الدولي عليها من أجل الاعتراف بها. ويُنظر الى تصريحات زعماء صربيا وكوسوفو بأنها تسببت في تصعيد الأزمة، لكن التصريحات الصادرة عن الاتحاد الأوروبي وأميركا وتركيا ساعدت على تهدئتها وخفض حدّة التوتر. ولهذا السبب، رحب قادة الاتحاد بقرار التأجيل الذي اتخذته حكومة كوسوفو، وأشاروا إلى أنه يمكن حلّ المشكلات القائمة عن طريق الحوار، ويريد الاتحاد الأوروبي استئناف عملية الحوار التي جرت تحت قيادته في عام 2011 لكنها توقفت منذ عام 2018، سيما بعد أن أحدث التوتر الحدودي في المناطق التي تقطنها أغلبية صربية مخاوف من احتمال اشتعال حرب كبيرة.
ولكن وفق تحليلاتٍ عديدة، لا توفّر الحالة الديمغرافية في المنطقة، والمشكلات الاقتصادية، والظروف الدولية، "اليوم" بيئة مؤاتية لنشوب حرب في وسط أوروبا، ولا إلى تحمّل تداعيات الحرب. وبالإضافة إلى وجود قوات حفظ السلام الدولية التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) والمعروفة باسم "كفور" في كوسوفو، وتعدادها 3775 جندياً من 28 دولة ، وهذه القوات مستعدّة للتدخل في حال تعرّض الاستقرار في كوسوفو للخطر، بحسب بيان لحلف الناتو.
عدم اعتراف روسيا والصين باستقلال كوسوفو يمنع عضوية كوسوفو في الأمم المتحدة
كما اتجهت الأنظار نحو روسيا، سيما بعد تصريحات رئيسة كوسوفو، فيوسا عثماني، "إن بوتين يمكن أن يستخدم كوسوفو لتوسيع الصراع الحالي في أوكرانيا وزيادة زعزعة استقرار أوروبا". ومعروفٌ أن صربيا وروسيا دولتان حليفتان تقليديا، وبعد الأزمة الأوكرانية التي أشعلت عدة حروب ساخنة وباردة، رفضت صربيا الانضمام إلى نظام العقوبات التي فرضته الدول الغربية على روسيا، وذهبت أبعد من ذلك، حيث وقّع الرئيس الصربي فوتشيتش، منتصف مايو/ أيار الماضي، على صفقة غاز تفضيلية مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، ولكن انشغال روسيا اليوم بمعارك أوكرانيا، والحرب الاقتصادية التي يشنّها الغرب عليها، بالاضافة إلى وقوعها على بعد آلاف الكيلومترات من منطقة البلقان، سيعيق موسكو عن دعم صربيا استراتيجياً في أي حرب.
يبقى القول إن عدم اعتراف روسيا والصين باستقلال كوسوفو يمنع عضوية كوسوفو في الأمم المتحدة، كما أن إصرار صربيا على عدم الاعتراف بكوسوفو دولة مستقلة يقف أمام رغبات انضمام صربيا إلى الاتحاد الأوروبي، على رغم قبولها دولة مرشّحة للانضمام إلى التكتل الأوروبي منذ عام 2012.