شاعر علَّمنا الحب
"رأيتُ رام الله" .. لو كان هذا كلّ إنتاجه نثرًا، وهو مصنَّف شاعرا فيكفي. وهناك من قالوا: لو كان كلُّ إنتاجه هو الشاعر تميم البرغوثي، فهذا يكفي. وذهب آخرون إلى أن قصة حبّه رضوى عاشور كافية أن تحفظ اسميهما للتاريخ. ويبدو أن تعدُّد الآراء التي تريد أن تختصر حياة شاعر يمنحك الفرصة؛ لكي تكتب بأريحية أكثر؛ فتمسك بجوانب كثيرة، فرحيل مريد البرغوثي المباغت، في يوم احتفال العالم بما يسمّى "يوم الحب"، كأنه يريد أن يقول لنا تذكَّروا قصة حبِّي رضوى عاشور، في هذا اليوم. وكأنه يريد أن يبلِّغنا رسالة، أن قصص الحب التي لا تموت هي التي تكتبها المواقف، وليس الهدايا المغلَّفة، ولكننا للأسف لا نعثر على قصص حب فعلية وحقيقية وباقية، إلا نادرًا، فهذه الأيام هي أيام قصص العلاقات العاطفية المتوتِّرة التي تتحوَّل شظايا، ولا يصل إليك إلا ما يريد أصحابُها إيصاله إلى الآخرين، على الرغم من أن قصص الحب الحقيقية هي القصص الباقية، بعد رحيل أحد طرفيها، والمحبوسة بين جدران البيوت السعيدة، ودفَّات كتب التاريخ، شهادات على صدور العشَّاق.
الذين تمرَّدوا على قصص الحب التقليدية قلَّة، وربما انتعشت قلوبنا، وارتجفت، كورقة شجر تدبُّ فيها الحياة، تحت قطرات الندى، وظللنا نحلم بقصةٍ مثلها، تحدث معنا، ولكن الأمنية ظلَّت أمنية، ولم نمسك بقصة حبِّنا الحقيقية؛ لأننا باختصار لم نحب الذين يحبوننا، بالطريقة التي يحبُّون أن نحبهم بها، كما قال الشاعر مريد البرغوثي واصفًا ما علَّمته إياه الحياة. ولذلك أحبَّ رضوى عاشور حتى يومها الأخير الذي جلس الموت في حضنها، فحنت عليه، ودلَّلته، وحكت له الحكاية. و"ناما في وقت واحد". وبموتها، فقد بيته الافتراضي، حيث كان يردِّد دائمًا: ضحكتها كانت بيتي. .. وحين أراد أن يتغزَّل بها شعرًا، فقد قال حالمًا ومتأسِّيًا: أنتِ جميلةٌ كوطنٍ مُحرَّر، وأنا متعَبٌ كوطنٍ محتل...
أما رضوى فقالت عن مريد "غريبٌ أن أبقى محتفظة بنفس النظرة إلى شخص ما، طوال ثلاثين عامًا، أن يمضي الزمن، وتمرّ السنوات، وتتبدَّل المشاهد، وتبقى صورتُه، كما قرَّتْ في نفسي، في لقاءاتنا الأولى". والمميَّز في قصة حبِّ مريد ورضوى أنه قد تركها تحبُّ وطنه، من خلال حديثه عنه. ويقول علماء النفس عن ذلك إن الحب قد يقع من الأذن أحيانًا كثيرة، مثلما أحب سجينٌ زوجة صاحبه، وهو يصفها، كلَّ يوم، بين الجدران، حتى إذا ما خرج، بعد وفاة صديقه في السجن، بحث عنها، وقرَّر أن يتزوَّجها. ولذلك فقد تعمَّق حبُّ رضوى مريد، حين حدَّثها عن فلسطين، وحين أدخلها بيوتها.
قصة حب مريد البرغوثي، في منفاه الأول، مع الشابَّة المصرية رضوى عاشور، مناسبة للقراءة، في أمسيات الوجع، فقد كتبها الزمن العربي الرديء، فمِن المحزن أن تكون كلُّ مصيبة، أو كارثة، تحلُّ بوطنك مرتبطةً بمناسبة شخصية، وقد حصل مريد البرغوثي على شهادته الجامعية في جامعة القاهرة، وتخرَّج في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها، في 1967، العام الذي احتلَّت فيه إسرائيل الضفة الغربية، ومنعت الفلسطينيين الذين تصادَف وجودُهم خارج البلاد من العودة إليها. وعن هذا كتب مريد، في كتابه الذائع "رأيت رام الله": "نجحتُ في الحصول على شهادة تخرُّجي، وفشلتُ في العثور على حائط أعلِّق عليه شهادتي".
رحيل الشاعر الفلسطيني، مريد البرغوثي، في المنفى، هو رحيل الجسد، وبقاء الروح، كسنديانة، زيتونة عتيقة، في قرية فلسطينية، اسمها دير غسَّانة. أما شعر حبِّ الوطن والحبيبة فهو متَّسِع القاعدة، يستهوي القُرَّاء من كلِّ الأجناس، حيث إنه، كما يقول النُّقاد عنه، يتصف بالمشترَك الإنساني؛ ما يجعل شعره بالغ التأثير في قارئه، ووصفوا لغته بأنها حسِّية مادية ملموسة، ويعمل على ما اعتاد أن يسمِّيه تبريد اللغة، أي إبعادها عن البطولية والطنين، فنظم شعرًا في جُلِّه حبّ، وليس حشوًا، كما قد يفعل غيرُه من الشعراء.