سيمون دو بوفوار ... الثورةُ ضد الأنثى
أتجاوز هنا قصصا كثيرة مشحونة بالرذيلة، والصراع مع الرفاق واقتسام العشيقات، التي تتقاطر في كل حياة جان بول سارتر وسفراته، وكان من أهم العناصر التي تشغله تأمين علاقة جنسية عند كل مرحلة أو سفر، ولم يكن يراعي في ذلك من كانت مرتبطة بزوج من عدمه... ثم الأرشيف الضخم لعالم الغيرة الشرس بين عشيقاته، والذي تنفجر فيه طبيعة المرأة، ويتّضح لنبي الوجودية سارتر، وللراديكالية النسوية الأولى سيمون دو بوفوار، حجم التضليل والفشل، في ترويج إنسانوية أخرى، لا تتفق مع الفطرة ولا تقبل أي ميثاق أخلاقي ورثته البشرية.
وكلما توغلوا في حياتهم الخاصة ورذائلها ثارت بينهم غرائز الذات، وافتراق الطبيعة بين الذكر والأنثى، ولكن ذلك كان يدفعهم من جديد إلى السخرية من علاقة الحب الطبيعية، واقتران المرأة بالرجل في بيت زواج لحياة مطمئنة، وكانت هناك صدمة عند انتحار إحدى عشيقات سارتر، بعد أن أدمنت المخدّرات، وكانت في صراع موسمي قلق عند انشغال سارتر بعشيقة أخرى. لكن الموقف لم يُغيّر شيئاً من حياتهم، وتواطأت معهم الصحافة، حينها قال زوج هذه العشيقة السابق إن انتحارها كان مرتبطاً بسلوك المثقفين اليساريين الفرنسيين، وكان سارتر يغضب وينفجر حين يعجز عن ممارسة الجنس مع عشيقة جديدة، لا تتجاوب معه. وكان حين يكون في حالة تعلق بإحداهن، يسعى لها بكل شيء، قال، مرة، لعشيقته واندا، إنه سيدوس على الجميع بما فيهن بوفو (بوفوار) لأجل البقاء مع حبها. وكانت مزامير كذبه لا تنتهي. وفي كل هذه الرحلات الماجنة، كانت سيمون متابعة له، بحسب ميثاق التعايش بينهما، ويتبادلان الرسائل. ومع ذلك لم تتوقف لحظة عن محاولة وضع إطار أخلاقي يحمي مشاعرها، أو يحمي على الأقل بقية الفتيات القادمات، فظلّ توريطها لهن في علاقات جنسية شاذّة، وربطهن بسارتر، قائماً.
كانت هذه مهمة التوظيف الحركي النضالي، في عالم الوجودية الفرنسي، وفي تحضيرات البيان الثوري للراديكالية النسوية. وكانت هذه القصص موقع الاستثمار في روايات سارتر ودو بوفوار ومسرحياتهما، وخصوصاً في الكتب الأخيرة، كانت مساحة الشذوذ وتصادم العلاقات ضمن مواد الكتابة، بعد إعطاء أبطالها اسماً وهمياً، وكانت الإهداءات من سارتر ومن دو بوفوار تعكس طبيعة مواسم هذه العلاقات، بل إن ضم الفتيات إلى أدوار المسرحيات كان يقدم كإغراء واستقطاب للشابات.
مارست دو بوفوار حياتها الجنسية الخاصة مع آخرين باتفاق مع سارتر، وخلال هذه الرحلة، واجهت مشاعر الأنثى
على الرغم من ذلك كله، ورغم أن المرجع المبدئي المشترك هو الفردية المطلقة التي تحكمها النزوة، لا الأخلاق، كانت دو بوفوار تعيش مواسم بكاء وألم متعدّد. لقد مارست حياتها الجنسية الخاصة مع آخرين باتفاق مع سارتر، وخلال هذه الرحلة، واجهت مشاعر الأنثى، ومعنى السكينة بين يدي الرجل، حين يقول لها بعض العشّاق ويصرّون عليها، لماذا لا نتزوج، في هذه الحالة تعترف بمعنى هذه الدعوة الملهم لداخلها، ولكنها تعود إلى الميثاق الوجودي.
وحين ارتبطت بعلاقة خاصة مع الكاتب الأميركي، نيلسون ألغرين، أبدى عدم الاهتمام بها، لكنها ألحّت عليه فأحبها، ووجدت فيه معنًى ملهماً، قالت عنه إنه حرّك عمقها، وذكّرها بابن عمتها الذي كان سيتزوّج بها، فحين عرض عليها ألغرين الزواج، كانت دو بوفوار تشعر بأن هذا المعنى يلتقي روحها الأخرى، التي لم تكفر بالفطرة، والتي تتناقض مع عقيدتها الوجودية وتبشيرها بها بين الشابات، لا فضيلة لا زواج لا ارتباط، فيعود المذهب الفردي ليحاصرها.
فجّرت دعوة ألغرين الذي أصرّ على الارتباط الثنائي، لا العلاقة الجنسية المشاعة المتعدّدة التي تمارسها دو بوفوار في حياتها، بركاناً ساكناً، في ظل رحلتها مع سارتر، حيث لم تفلح الوجودية الفوضوية في كتم الطبيعة الإنسانية للمرأة، وسعت إلى لقاء ألغرين مجدّداً، لكنها حين وجدت إشباعاً جنسياً آخر، وزّعت أولوياتها، وكانت مواسم السفر والمتعة عالماً مستمرّاً في حياتي دو بوفوار وسارتر، غضب ألغرين ولم يُعجب بسارتر ولا بحياة بوفوار، وظلت العلاقة تتراوح بينهما. لكنه في مقابلة صحافية كان ساخطاً عليها، وقال إن كل من يدخل مسكنه في كل العالم يُغلق عليه الباب، إلا دو بوفوار تفتحه على المسرح، في إشارة إلى ما ترمز له رواياتها ومقابلاتها، وما تصرّح به من علاقات جنسية. وقد آلمت هذه الكلمة دو بوفوار، ولم تغفر له بعد اعتذاره، ولم تبدِ أسفاً لموته، ومع ذلك ظلت تلبس الخاتم المتواضع الذي أهداها إياه حتى وفاتها، خاتم خطبة الزواج!
ظلت علاقات سارتر الحميمية الجنسية المتعدّدة، بين أميركا وروسيا وفرنسا، وبين الفتيات اللواتي حوّلهنّ إلى عشيقات حوله، تعصر حياة دو بوفوار
ظلت علاقات سارتر الحميمية الجنسية المتعدّدة، بين أميركا وروسيا وفرنسا، وبين الفتيات اللواتي حوّلهنّ إلى عشيقات حوله، تعصر حياة دو بوفوار، ولكن من دون أن يدفعها ذلك إلى خط أخلاقي رافض لهذه الحياة، بل العكس، ظلت شريكة معه في المشروع الإلحادي العدمي، الذي بنت عليه ثورة الراديكالية النسوية، ثورة تقتصّ من المرأة باسم ظلامتها، فتحوّلها إلى حركة نقض للذات وللشراكة الماتعة في الحياة ولتهديد الطفولة، فلم تقتص من الرجل الجنساني الظالم الذي قدمت عمرها له، وصارعت عليه إلى آخر لحظة، ثم قدّسته في أشهر مكتبة بفرنسا القومية والعالمية.
هذه الراديكالية النسوية اليوم التي يغزو بها الغرب من جديد كل عوالم الأرض، وهذه سيرتها وقصة حكاياتها، فهل هذه النزوة العدمية الرافضة الروح تنقذ النساء المظلومات؟ هل تخلق مجتمع حضارة أفضل؟ لماذا يتبنّاها الغرب الرأسمالي، رغم أنها صدرت من حركة اليسار الغربي؟ وكيف تحشد هذه المنظمات كل قوتها، تحت رعاية الغرب الاستعماري، ويدعمها في شروطه السياسية على بقية الدول، ويغيّر مواثيق الأمم المتحدة بناء عليها، ويرفض قيم الشرق، وخصوصاً الإسلام الذي يجعل عماد الأسرة بين الذكر والأنثى، الحب والعفة والطهرانية الروحية، وتبقى متعتهم الخاصة لهم، وليس لمسرح الناس؟
كم هو موجع أن هذه الوجودية والراديكالية النسوية لا تزال تقتلع من أجيالنا العربية، رغم أن هذه سيرة أنبياء هذين المسلكين، وشهادتهم على أنفسهم بخطوط أيديهم.