سيف الرحبي والحب الصامت

12 يوليو 2021
+ الخط -

أثيرت في عُمان، قبل أيام، ردود فعل متباينة، تتعلق باختبارٍ في المستوى المدرسي لمادة اللغة العربية، وردت فيه قصيدة نثر للشاعر سيف الرحبي، نظرا إلى أن تفكيك مغاليق الغموض يشكل ركنا أساسا في قراءة قصيدة النثر. ولكن الجميل كان ردة الفعل الصامتة من كتّاب عُمانيين عديدين، حين نشروا على جدرانهم الزرقاء صورة سيف الرحبي مع مختاراتٍ من قصائده. وهناك من أضاف تعليقا، معرِبا فيه عن المكانة الريادية لهذا الشاعر، ليس فقط عُمانيا، وإنما أيضا في خريطة الوطن العربي الشعرية، حيث ينال سيف الرحبي حضورا عربيا وازنا يمكن تلمّسه بسهولة. وعُمانيا، يعدّ أحد فرسان الصف الأول لقصيدة النثر العُمانية (بالإضافة إلى الشاعرين سماء عيسى وزاهر الغافري). وقد تميز بالدفاع عن هذا النوع الشعري علنا، حين خاض، برفقة أصدقاء، ما يشبه معارك ثقافية في الثمانينيات والتسعينيات، وقد خاض هذه المعارك أنصار هذا التيار الشعري الجديد دفاعا عن اختيارهم التعبيري، وليس بالضرورة هجوما على القصيدة التقليدية التي يكنون لرموزها احتراما، ونتلمس هذا في قصائد سماء عيسى التي تمتح من التراث العُماني وتقدر رموزه، وكذلك من خلال اللقاءات التي كان يجريها الشاعر مبارك العامري في الصحافة الثقافية، ومنها مع "أمير البيان"، الشاعر عبد الله الخليلي. ناهيك عن قصائد سيف الرحبي نفسه ومقالاته التي يذهب كثير منها في هذا الاتجاه. وقد عرفت عُمان، طوال تاريخها الأدبي، بسيادة الشعر والنظم بقالبه التقليدي الذي كان قالب تعبير توصيلي حتى للمسائل الفقهية، بل كذلك المسائل العلمية، إذا استحضرنا بعض الأراجيز الطبية، أو تلك المتون النظمية التي تركها من عرف في الأدبيات الغربية بأسد البحار، أحمد بن ماجد.
للقالب العمودي في قول الشعر ونظم الأفكار تاريخ طويل في عُمان، بل كان، في العمق، نافذة تنفيس ومقاومة للعزلة، عبّر من خلاله المثقفون العُمانيون عبر الأجيال، وسلكوه متنفسّا وشرفة تهويةٍ تعبيريةٍ يطلون من خلالها على محيطهم العربي، تفاعلا وتصاهرا، في محاولةٍ لتقريب النأي الجغرافي. وقد تركوا في مجالاتٍ عدة خزانة شعرية كلاسيكية ضخمة ومتنوعة، حاكت الأغراض والقضايا في مراكز الثقافة العربية، بل إن شاعرين عمَوديين، مثل أبي مسلم البهلاني (عاش ومات في القارة الأفريقية) وعبدالله الطائي الذي تنقل بين عدة بلاد عربية وآسيوية وتوفي خارج وطنه، تميز تراثهما الشعري بالتنوع، وطرق أغراضٍ لم يسبق للشعر العُماني أن طرقها، كقصائد الاستنهاض القومي التي ميزت جانبا من شعر البهلاني، وقصائد التفاعل مع هموم الأمة كما جادت به قصائد الطائي التي طاولت فلسطين والجزائر، وقصيدة طويلة عنوانها "الملك المجاهد"، دبجها في الملك محمد الخامس إثر نفيه.
كان من الصعب زحزحة هذا العمود الشعري والنظمي الراسخ في الذائقة العُمانية من دون الدخول في صراع، وهو ما انبرى له من كان يطلق عليهم في الصحافة المحلية حينها "شعراء الحداثة"، وكان الرحبي في مقدمة هؤلاء المنافحين عن هذه الحساسية الجديدة، لتنضم في وقت متقارب تجارب الشعراء محمد الحارثي وعبدالله الريامي وصالح العامري وعبدالله حبيب وناصر العلوي وغيرهم. ثم لنشهد الآن جيلا ثالثا، تميز فيه يحيى الناعبي وعبد يغوث وهلال الحجري وعوض اللويهي وفاطمة الشيدي ومحمد السناني وزاهر السالمي الذي ذكره سعدي يوسف في آخر مقالاته، في معرض حديث عن خريطة القصيدة العربية الحديثة، من دون أن يُغفل تشكل جيل رابع لقصيدة النثر مع فتحية الصقري ولبيد العامري وآخرين.
للشاعر سيف الرحبي قرابة الثلاثين كتابا بين شعر وسيرة ومقالات، وشكل ديوانه "رأس المسافر" (دار توبقال، الدار البيضاء، 1986) منعطفا حقيقا لمسيرته الشعرية التي بدأت من دمشق وباريس في بداية الثمانينيات، مع دواوين "أجراس القطيعة" و"نورسة الجنون" و"الجبل الأخضر". تدرّس قصائد له في المدارس العُمانية، منها "قصيدة حب إلى مطرح" في "رأس المسافر"، وحملت عبارات حب، بثتها وعبرت عنها شريحة واسعة من الكتاب العُمانيين. حب مؤازر صامت، يورد الجوهر وينأى عن العَرض.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي