سورية البكماء واستراتيجية الجمود في الزمن

سورية البكماء واستراتيجية الجمود في الزمن

11 أكتوبر 2022
+ الخط -

يظلّ نموذج إذاعة "ميل كولين" (Mille Collines) في رواندا، نموذجاً للانحراف الخطير للإعلام، حين يصبح واجهة للتحريض على العنف، وتمجيده، وشيطنة العدو واعتباره كياناً دونياً.. في المقابل، قال ممدوح عدوان، قبل أكثر من أربعين عاماً، جملة لا تزال في أذهان السوريين: "الإعلام السوري يكذب حتّى في النشرة الجوية". مقولة إنما تؤكّد على أنّ إعلام نظام الأسد، بدوره، لم يتردّد في توظيف هذا المنهج الانتقائي، من دون أن يخجل من تقزيم الظواهر التي تعارض السياسات الرسمية وتضخيم الداعمة لها. عبر التهرّب من مواجهة الحقائق الدامغة، إما بتصنّع الترفّع والادعاء، وتجنّب الدخول في سجالاتٍ استعراضية لا تمتّ في أعرافه إلى التحليل الرصين بصلة! أو عبر الاستقواء بمقولات أيدولوجية وشعارات حماسية عن القومية والوطنية وضرورة مقاومة المؤامرات الخارجية. وعليه، نجحت مؤسّسات الإعلام في نقل الجانب الأبكم من سورية، بعدما شكّلت كوناً موازياً لعموم السوريين، حيث "سورية بخير"، و"خلصت الأزمة"، و"سورية الله حاميها" في بلاد يحكمها زعيمٌ مقدّس، محبوبٌ ومنتخب بالوراثة. 
بطبيعة الحال، حُرم السوريون من حرية الرأي والتعبير منذ بداية عام 1963، بعدما جرى تجميد العمل بقانون المطبوعات الصادر عام 1949، والذي كان يضمن حرية الصحافة. وازداد الأمر سوءاً بعد انقلاب أكتوبر/ تشرين الأول 1970 الذي قاده حافظ الأسد للاستئثار بالسلطة، وجمع كلّ الصلاحيات بيده اليمنى. حيث باتت وسائل الإعلام كلمة مرادفة لأجهزة المراقبة والمخابرات، تسبّح بحمد النظام القائم وتتقدّس بأبديته. فالانقلابات العسكرية في سورية كانت تبدأ ببلاغ رقم "واحد" من الإذاعة بعد اقتحامها والسيطرة عليها. وقد جرى إنشاء إذاعة صوت الشعب لتكون بوقَ النظام في عام 1978. أما الصحافة المرئية التي بدأت في 1960 فكانت بالطبع حكراً على النظام، حيث جرت السيطرة على التلفزيون الذي شهد بروز القناة الثانية في 1985، والفضائية السورية في 1995، وكلتاهما رسميتان مسخرتان لبثّ خطاب النظام ونشره. لاحقاً وفي بداية عهد الأسد الابن، صدر قانون القنوات الإذاعية الخاصة، تعمل على موجة إف إم، لكن محظور عليها أن تقدّم أي برامج سياسية. وفي السياق، لم يُسمح إلا لرامي مخلوف بإنشاء قناة تلفزيونية خاصة، لتكون، في الأساس، منبراً موازياً لأبواق السلطة.

كان من الطبيعي أن تبدأ رحلة هروب الإعلام السوري بعد اندلاع انتفاضة 2011

تأسيساً على ما تقدّم، حرص الإعلام الرسمي السوري على تبنّي رواية منفصلة عن الواقع، وما يحفل به من صراعات وأزمات. هذا الإعلام يعرف أنه يكذب ويلفِّق، ولكنه يعتمد على عنصر "الألفة" وخوف جمهوره من التعرّف إلى رواية أخرى تزيد من إحباطه. ويعلم ضمنياً أن هذه "البروباغاندا الدرامية العاطفية" باتت أمراً معتاداً، بل و"بطاقة محروقة" بالنسبة للشعب السوري بأسره. لذا كان من الطبيعي أن تبدأ رحلة هروب الإعلام السوري بعد اندلاع انتفاضة 2011. متجنّباً على طول الخط الاعتراف بوجود أزمة تحتاج معالجاتٍ سياسية جذرية، واعتباره الثورة مجرّد منغصّات مارقة، أو جزيرة معزولة في بحر مستقر.
ومع انحسار محاولات عدة لوجود وسيلة إعلامية سورية تنقل الثورة/ الحدث، عاد السوريون إلى متابعة أخبار بلادهم عبر قناتَي الجزيرة والعربية بشكل رئيسي، بينما انشغل التلفزيون الرسمي السوري برصد تفاصيل الحياة اليومية للثدييات في القطب الشمالي. ولعلّ أهم المفارقات المضحكة قدرة هذا الإعلام على تجميد الزمن، ففي حادثة "بثّ مباشر" للتلفزيون السوري عام 2011 تظهر إحدى المواطنات، وهي تدعو لحافظ الأسد بالنصر والتأييد الإلهي، لتصحّح لها المراسلة رأساً بالدعاء بالرحمة للأخير، والتمكين لابنه بشار الأسد!

لا يخفى على أحد اعتماد الماكينة الإعلامية السورية نظرية المؤامرة، وهي نظرية لا تغيب عن الأدبيات السياسية الرسمية إلا لتطلّ كلما لاحت بوادر أزمة ما

وعليه، تتالت مظاهر الانفصام الإعلامي عن الواقع السوري المأزوم.. ليس بداية بتسليمه بأنه لا توجد مظاهرات، بل هناك تجمّع العشرات من السوريين احتفاء بنزول المطر، مروراً بأنّ المتظاهرين يتعاطون الحبوب المخدّرة، والكثير "غُرّر بهم" مقابل سندويشة فلافل وألف ليرة سورية. وليس آخرها بالتأكيد، وبعدما وصلت الأزمة السورية المعيشية إلى طرق مسدودة، البرنامج الذي عُرض على قناة الإخبارية السورية التابعة للنظام، أخيراً، وتداول موضوع "الشتاء على الأبواب بماذا سيتدفأ الأوروبيون"، والذي أثار استهزاءً  كبيراً في الشارع السوري. وعلّق ناشطون سوريون، سخروا من طريقة تعاطي الإعلام الحكومي مع أزمات غير السوريين، وإهمال معاناة شعب كامل ومأساته، بالقول: "المُضحك المُبكي دائماً هو حال الإعلام السوري". وورد في أحد التعليقات القول إن "الإخبارية السورية على مبدأ الحريق بداره وخايف على جاره". 
لا يخفى على أحد اعتماد الماكينة الإعلامية السورية نظرية المؤامرة، وهي نظرية لا تغيب عن الأدبيات السياسية الرسمية إلا لتطلّ كلما لاحت بوادر أزمة ما. حريصة على إنفاق الكثير من وقتها وأموالها وكوادرها لتضليل الناس والتشويش على الإعلام الحر: تبتدع شهود عيان مزوّرين، وتنتج مواد مصوّرة ملفقة، وتضع واجهات مراكز دراسات استراتيجية لتسويق نظريتها في وسائل الإعلام العربية والأجنبية. كما أعقب سياسة الردّ بالقوة على انتفاضة عام 2011 البدء بحملاتٍ إعلامية مكثّفة، ركّزت فيها وسائل الإعلام الرسمية على فكرة المؤامرة والتدخلات الخارجية، قبل أن تُعمّم ثقافة "العصابات المسلحة" و"الإمارات السلفية" و"المندسّين". هكذا انقسم السوريون، وفق الرواية الرسمية، إلى "أقلية مضلَّلة ومجرمة وقاتلة" لا بدّ من تصفيتها، وأغلبية مخلصة طيبة، من الضروري إنقاذها بـ"سفك دماء الأقلية المندسّة".

لأول مرة في تاريخ سورية المعاصر يستطيع إعلام الثورة الشعبية أن يفضح الإعلام الرسمي ويهزمه بأدوات بسيطة

بناء عليه، يستمر إعلام النظام في بث خطاباته الدعائية، وبياناته الصحافية الجاهزة المكرّرة والمتضمّنة أسباباً وتبريرات جامدة، وبلغة تُوصف بأنها خشبية. وفي الحقيقة، لم يعد هذا الأسلوب الدعائي مستساغاً لدى الجمهور السوري بشكل عام، بل وحتّى لدى الفئة المؤيدة للأسد، التي اتجهت إلى وسائل التواصل الاجتماعي، لانتقاد ما يروّج من أخبار، والتعبير عن عدم تصديقها لها، فاللعبة أصبحت ساذجة ومكشوفة. يروّج الإعلام السوري الرسمي ما يخدم مصالح النظام على قاعدة المجاهدة في تحميل الآثام كاملة للآخرين وتبرئة الذات منها، أو الإصرار على عدم الاعتراف بما يُرتكب في ضوء تكرار الحديث عن أنّ ما جرى ويجري ليس أكثر من مؤامرة خارجية لقوى طامعة تتربّص للنيل من "سورية المقاومة"!. ومرّة ينهال بالشتائم والاتهامات على ما يسمّيها مجموعات تآمرية ومسلحة، أو أحزاباً انتهازية تحاول ركوب الموجة وتوظيفها لخدمة مآربها الخاصة، ومرة ثالثة بالسخرية من الشعارات التي يرفعها المتظاهرون، خصوصاً المتعلقة بالحرية وحقوق الإنسان، والزعم بأن البلدان التي أنتجتها لا تحترمها!.
لقد خرج المارد الإعلامي السوري من قمقمه، ولم يعد بالإمكان حجب الشمس بالغربال، فإن صحّ تعريف الإنسان بأنه ابن بيئته، يصحّ اليوم تعريفه بأنه ابن وسائل إعلامه التي فاق تنوّعها وتعدّدها كلّ تصور، وباتت الأقدر على التأثير في وعيه وتمكينه من بناء شخصيته ومواقفه. في المقابل، خسرت السلطة الأمنية معركتها الإعلامية، وثمّة دلالة رمزية بالغة الأهمية: أنه لأول مرة في تاريخ سورية المعاصر يستطيع إعلام الثورة الشعبية أن يفضح الإعلام الرسمي ويهزمه بأدوات بسيطة، ولكنها عصرية وذكية وماهرة وذات مصداقية عالية. بينما لا يزال إعلام النظام يعيش عالمه الخاص، ولا يوحي بتعاطٍ يرتقي إلى أزمة عميقة تطال جميع جوانب الحياة، وتهدّد مستقبل الدولة السورية، فيبدو كمن يغنّي في غرفة مغلقة، فلا يسمع إلا نفسه.