سنوات الفرص الضائعة
كان المشهد مهيبا ومفاجئا، حتى لأكثر المتفائلين بالتغيير، مئات آلاف من تجار الصمت يغلقون حوانيتهم، ومصدر رزقهم، ويملأون الميادين بالهتاف، رحل حسني مبارك، وأدرك رجاله، ربما لأول مرة في تاريخهم، حاجتهم إلى الانحناء أمام الريح، وحاولوا مرارا الجلوس إلى شباب الثورة البارزين للتفاوض، ولم يجدوا سوى شباب حالم، وغير مستعد لتقديم أي تنازلات، احتراما لحلمه وثقة في إمكاناته. وجد النظام الإخوان المسلمين على مائدة الحوار والتفاوض والاستعداد لتقديم الخدمات والتنازلات، ليس بعد رحيل مبارك، بل وحتى قبله، في الأيام الثمانية عشر الأولى من عمر الثورة. ضاعت الفرصة وجاء الإخوان، وكان الاتفاق بين محمد مرسي وممثلي التيار المدني في فيرمونت، قبل الإعادة، هو ضمانة نجاحه، بأصوات معارضيه، وتفوّقه على مرشّح الدولة العميقة أحمد شفيق، كما أنه ضمانة استمراره وثباته على كرسيه، أهدر الإخوان فرصة فيرمونت وتنكّروا لها، وخسروا ظهيرهم المدني، وهو الأمر الذي تكرّر بصيغ مختلفة مع الحليف الإسلامي حزب النور، الذي تركهم، واستغنى عن داعميهم، وبحث عن غيرهم، محليا وإقليميًا.
كان الاتفاق بين الإخوان وقيادات المجلس العسكري يقتضي، بوضوح، عدم الاقتراب من مناطق نفوذ الجنرالات، الجيش وميزانيته وقادته، وهو اتفاقٌ غير عادل نظريا، لكنه يعبّر عن موازين القوى داخل الدولة المصرية لحظة إبرامه، وافق الإخوان وتسلموا السلطة، وفق الشرط، ولكن سرعان ما انقلبوا على الشرط وأصحابه، وكان عزل مرسي المشير حسين طنطاوي والفريق سامي عنان، في ما سمّي وقتها إنهاء حكم العسكر في مصر، أحد أكبر إنجازات الرئيس. واستقبل شباب الثورة، وكاتب السطور أولهم، خبر العزل بالدعم والتأييد لصاحبه، وهاشتاغ جدع يا مرسي، الذي تشهد تغريداته، إلى اليوم، على حجم التهليل والتكبير لأحد أخطر قرارات مرسي على الثورة وكرسيه في آن، ضاعت فرصة الاستمرار، الآمن، في السلطة، وبدأ العساكر خطّتهم البديلة، وإجراءاتهم لاسترداد "كامل" السلطة، وإزاحة الوافد "الأخضر"، الذي لم، ولن، يفهم قواعد اللعبة.
رحل مرسي، وجاء عدلي منصور مؤقتا، ومن ورائه عبد الفتاح السيسي تسنده شعبيةٌ طاغية، صنعتها، بالأساس، سياسات الإخوان وخطاباتهم. ووجّه منصور الدعوة إلى الفرقاء السياسيين للاجتماع والتشاور، ذهب عبد المنعم أبو الفتوح وطرح مبادرة سياسية للاعتراف بما حدث على أرض الواقع، والتفاوض بشأن تسويته، بشكل سلمي، وسبقت أبو الفتوح إلى القصر لعنات ومزايدات كل من ذهب للتفاوض من أجل دمائهم، فما كان من النظام، غير المضطر للتسوية، إلا أن رفض مبادرته، وذهبت فرصة أخرى لحقن دماء المتظاهرين في ميداني رابعة والنهضة والحرس الجمهوري… إلى آخر خريطة النزيف. كانت مذبحة رابعة الأكثر إفراطا في استخدام العنف، ما استدعى ردود أفعال، بعضها عفوي، وعشوائي، والآخر منظّم، تدعمه جهات معادية، استثمرت في "غشومية" النظام وإهداره، بدوره، فرص الحل والتفاهم، وكان ما كان من نزيف الدم المتواصل من أرواح شهدائنا في سيناء وغيرها.
في 2015، كان الملف الأمني ضاغطا بالشكل الذي استدعى، وفق تصريحات أحد مرشدي الإخوان إبراهيم منير على فضائية الحوار، التواصل مع الأطراف كافة للتفاهم والتسوية، ومنهم الإخوان، بطبيعة الحال، وعرض النظام التصالح ورفض الإخوان، وضاعت فرصة أخرى لإخراج المعتقلين، وعودة المشرّدين، وتقليل خسائر الجماعة، ومن ورائها فصائل المعارضة "الملطوطة" معها في معادلة الصراع الصفرية، وهي الفرصة التي ذهبت ولم تعد، بعد تصفية محمد كمال ومجموعته.
مرّت على مصر، أو فوقها، ظروف كورونا، وتأثرت جرّاء الحرب الروسية الأوكرانية، ودفعت ثمن سياساتها الاقتصادية، غير المدروسة، وتعرض تحالف 30 يونيو إلى هزّات، ليست عنيفة، لم يعد معها، محليا وإقليميًا، كما كان، ناهيك عن الضغط الدولي، والأميركي تحديدا، في ملفات الحقوق والحريات، ما آل إلى تآكل في شرعية النظام. من هنا، جاءت الدعوة إلى الحوار الوطني. وإلى هنا، نحن أمام "فرصة" ما زال النظام فيها الأقوى، ولكن ليس الأوحد، فإما إهدارها، وفق رصيد خبراتنا، أو استثمارها، ربما لأول مرة، وفتح حسابٍ جديد.