سلمان رشدي .. وشهداء رابعة

16 اغسطس 2022

(ماريا بينتيفينجا)

+ الخط -

كانت المذبحة في ميدان رابعة العدوية بالقاهرة (أغسطس/ آب 2013) أبشع جريمة ارتكبتها الدولة المصرية في تاريخها الحديث، وكانت من الوضوح، والفجاجة، بحيث لا تَخفى على عاقل، لديه الحد الأدنى من القدرة على زنة الأمور وتقديرها. اختارت أجهزة الدولة المصرية هذه الطريقة في فضّ الاعتصام من دون عشرات غيرها، وتعمّدت أن يكون الميدان هو محطة المتظاهرين الأخيرة، وألا يتركوه إلى بيوتهم أو حتى إلى السجون، حيث إمكانية التحقيق والتمييز والفرز ومنح فرصة أخرى لمن يستحقّها، بل إلى قبورهم، وبأكثر الطرق بشاعة، انتقاماً مما مضى، وتخويفاً ورعباً من كل ما هو آت.
وافق ملايين المصريين على ما حدث، وتأثروا بالدعاية التي سبقت الفضّ، والإشاعات الأمنية الساذجة التي جرى ترديدها على الشاشات، وشارك مصريون في "تجريس" العائدين من ميدان رابعة في أحيائهم، والشماتة بهم، وهي أحياء شعبية، أغلب من يسكنونها "غلابة"، ولا مصلحة لهم، لكن الناس على دين إذاعاتهم، وتغيّر مزاج السواد الأعظم من الشيء إلى نقيضه ليس جديداً. المدهش، والمؤلم، كان موقف النخب السياسية والثقافية، وتصديق بعضهم الدعايات نفسها، وإقرار بعض آخر لها وتمريرها من دون مساءلة، بل وترديدها، والمساهمة في نشرها، على تهافتها.
حين صدرت رواية "آيات شيطانية" في 1988، جاءت ردود الفعل السياسية سابقةً عن غيرها، ثم توالت ردود الفعل الشعبية، ونزلت مظاهرات تطالب بمحاكمة الكاتب سلمان رشدي، وهذا مفهوم. غير المفهوم هو موقف نخب ثقافية ودينية كان من المفترض أن دورها هو القراءة والتأويل و"تفهيم" القراء معنى أن تتحدّث شخصية، داخل رواية، وما الفارق بين ذلك ورأي الكاتب، أو حتى تختلف مع رشدي وتقدّم قراءة نقدية "فنية" لروايته، مع إقرارها حقه، وحق نقاده، في الكتابة، ورفضها خطابات القتل مقابل الفكرة، وهو ما حدث، طبعاً، ولكن في نطاقات أضيق بكثير من تلك التي ملأها مثقفون آخرون بخطاباتٍ بعضُها ينافس فتوى الخميني في دمويتها، ومنها، على سبيل المثال الذي تحتمله مساحة المقال، قصيدة "رسالة إلى سلمان رشدي" للشاعر المصري فاروق جويدة، وهي قصيدة وعظية تبشيرية، ليس فيها من الشعر إلا الوزن والقافية، تتهم رشدي بوضوح بأنه كافر ومرتدّ وتتوعده، في نهايتها، بقطع رأسه. استعارها، في حينها، الداعية السلفي محمد حسان، وسمح لنفسه بتعديل بعض أبياتها، وصرخ بها على المنبر، وسط تهليل وتكبير جماهيره، وهو ما اعتبره جويدة شيئاً مشرّفاً. وفاروق جويدة ليس عضواً في جماعة إسلامية أو تنظيم جهادي، بل هو من نجوم صحيفة الأهرام الحكومية سنوات طويلة، وأحد أكثر الشعراء والكتاب قرباً من السلطة، وصرّح، بنفسه، بأن الرئيس حسني مبارك كان يتابعه ويتصل به، أحياناً، ليناقشه فيما كتب.
وافقت نخب ثقافية على قتل الإخوان المسلمين بدم بارد خوفاً من مشروعهم، (أو مجاراة للأقوى)، وهو خوفٌ مشروع، يستحقّ مجابهة أفكار "الإخوان" بأفكار مثلها، ومحاكمتهم، حال التجاوز، وفق منطق القانون، لا الغابة. ووافقت نخب ثقافية، (ودينية مع الأسف) على مجاراة "صوت السواد" في المطالبة برأس سلمان رشدي، للأسباب نفسها، كراهية لأفكاره، أو مجاراة للأقوى. وفي الحالتين، نحن أمام "نخب" ليس لديها أدنى استعداد لتحمّل فاتورة الحرية، وتفضّل استبداداً يخلّصهم من خصومهم، عن حريةٍ تمنحهم، مع خصومهم، الحقّ في التعبير والخطأ، والحياة.
في كتابه "الانتقال الديمقراطي" يرى عزمي بشارة أن الثورات قد تزيل الأنظمة، لكنها لا تصنع الديمقراطية، وكذلك الشعوب لا تصنعها بمفردها، إنما تفاهمات "النخب العاقلة"، وقدرتها على التفاوض وتقديم التنازلات والتقدم ببطء واللعب بحذر. أما نشر ثقافة الديمقراطية بين الشعب فهو يساهم في ترسيخ الديمقراطية، في ما بعد، وليس صنعها. هكذا تخبرنا تجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة والفاشلة. حين نرصد مواقف أغلب "النخب" العربية مع خصومها في السياسة أو الفكر، ومدى استعدادهم لدعم انتهاك الخصم بالقتل أو السجن أو التشريد أو قطع الأرزاق أو الإقصاء والتهميش، ربما نفهم أحد أهم أسباب الاستثناء العربي في الديمقراطية... دعاتها.