سلطة الخطوط
يعرف الإنسان في حياته الكثير من أنواع الخطوط الوهمية التي لا تتجسّد في الواقع، ولا يراها بالعين، والتي تحدّد مسارات حياته، ولعل أكثر هذه الخطوط استبدادا ما يعرف بالخط الأحمر، وهو الخط الذي من غير المسموح للإنسان تجاوزه في مجالٍ ما. ولكن أين يقع هذا الخط الأحمر، وكيف يمكن للمرء تحديده؟
هذا أمر نسبي، فهو ليس نفسه للجميع، أفرادا ودولا وجماعات. وتساعد في تحديده أشياء كثيرة، أهمها قوة الشخص أو الجماعة المفروض عليها تجاوز هذا الخط، سواء القوة المالية أو القوة البدنية التي توازيها على مستوى الدول القوة العسكرية، فالخط الأحمر لشخص فقير ليس نفسه للشخص الغني. وتجد أمثالا وحكما كثيرة تعبّر عن ذلك، كالمثل "هذا من بيت الفرفور ذنبه مغفور". وذنبه في الحقيقة هو تجاوزه خطا أحمر ما. وعلى مستوى الدول، تختلف الخطوط الحمر أيضا من دولة إلى دولة، فما هو مسموح لهذه غير مسموح لتلك. وتتضاءل فاعلية الخطوط الحمر طردا مع ازدياد حجم القوة لهذه الدولة أو تلك، ففي حين يمكن للولايات المتحدة، على سبيل المثال، أن تضرب دولة في أقاصي الأرض تحت ذريعة أنها تشكل خطرا على أمنها القومي، يعدّ دخول قارب تابع لدولة صغرى عن طريق الخطأ إلى المياه الإقليمية لدولة مجاورة خرقا لسيادتها، ربما يشكل مبررا كافيا لغزوها، لأن ذلك يشكل خطا أحمر للدولة التي اعتدى قاربها على المياه الإقليمية المذكورة.
ولهذا يسعى الجميع لكي يصبح قوة نووية، ليس لأن لديه هدفا باستخدام هذا السلاح ضد أحد، وإنما لكي يستطيع أن يزيح الخطوط الحمر إلى مسافةٍ أبعد، لأن السلاح، بأنواعه كافة، والقوة العسكرية، تجعل الدولة لا تخشى عواقب تجاوز هذه الخطوط التي تُمحى في حال توفّر القوة. ولا بد أننا سنرى فرقا كبيرا بين طريقة حديث رئيس الولايات المتحدة ترامب مع رئيس كوريا الشمالية النووية وطريقة حديثه مع رئيس أو زعيم أيٍّ من دول العالم الثالث. ولا يحدُث هذا لأن زعيم كوريا محترم وذاك غير محترم، بل لأن زعيم كوريا لاحم، لديه ناب نووي، يستطيع أن يعضّ به، والآخر بلا أنياب ولا مخالب، كما في الغابة تماما.
ومن الخطوط البشعة التي يرسمها المستوى المعيشي للإنسان هي خط الفقر الذي يحدّده مستوى دخل الفرد في البلد وقدرة الشخص على تأمين قوته الذي يكفي لكي يعيش في مستوى معين يبلغ فيه حد الشبع. ومن الخطوط التي نسمع بها الخط الساخن، وهو قناة تواصلٍ سريعٍ بين طرفين، يستخدم عند الضرورة لمنع وقوع حدث جلل. كذلك الخط الواصل، على سبيل المثال، بين رئيسي دولتين كروسيا والولايات المتحدة، أو بين وزير دفاع وزعيم دولة، أو غير ذلك مما يتطلب وصولا سريعا إلى مركز القرار. ويعدّ الخط الفاصل من الخطوط الضامنة لأمر ما، وهو، على الأغلب، خط الحدود الذي يفصل البلاد عن بعضها، أو الذي يفصل الخير عن الشر، ويساعدنا تجاوزه في تحديد نوعية الفعل.
أما أكثر الخطوط دموية فهو خط التماسّ، ومثله خط القتال وخط الجبهة وخط الدفاع، وغيرها من الخطوط الدموية المنبثقة عنه، وهي خطوط حربية بامتياز، إذ تعني مباشرة الخطوط التي تدور المعارك وتسفك الدماء وتزهق الأرواح على جانبيها. وهي في أحسن حالاتها خطوط قلقة ومتوترة، قابلة للاشتعال في أية لحظة. ويمكن الحديث أيضا عن خط التسديد الذي يمكن اعتباره الخط القاتل، فهو يمتد بين عين الرامي وقلب الهدف، وهذا خاتمته موت أو جرح مؤكّد. ويمكن للخط، أحيانا، أن يكتسب معنى سياسيا، فيقولون مثلا هذا خط وطني أو معادٍ لكذا أو موالٍ لكذا. ولا ننسى خط الطيران الذي عنى بداية ربما خط سير الطيران، ثم أصبح يعني شركات الطيران. وهكذا، إذا أمعنّا النظر، نجد أن حياتنا أينما كنا تقع وتجري بين شبكةٍ من الخطوط المتنوعة التي لا تنتهي بالخطوط المرسومة في أكفنا، والتي حمّلها قراء الكفّ معاني كثيرة.