09 نوفمبر 2024
سعفة "كان" العربية
نال المخرج اللبناني، إيلي داغر، الشهر الماضي، "سعفةً" ذهبية في مهرجان كان السينمائي، غير أن هذا الفوز لم يحظ بالتفاتٍ عربي خاص، ليس فقط لكسل الصحافة الثقافية والفنية العربية المعتاد، بل أيضاً لأنه كان عن فيلم قصير. وقصة العرب مع المهرجان الدولي الأهم في العالم مؤسفة، كما في كل شؤونهم، إذ على ما أنجزوا من أفلام فريدة ومتميزة ومهمة (معدودة)، فإنهم لم يحظوا في مواسم هذا المحفل الفني العالمي، منذ أول دوراته في 1947، إلا بسعفة ذهبيةٍ واحدةٍ لفيلم طويل وحيد، هو (وقائع سنين الجمر) لمخرجه الجزائري، محمد لخضر حمينة، في 1975، وهو الفيلم الذي عدّه استفتاء واسع من أجمل عشرة أفلام في تاريخ السينما العربية. وبمناسبة أربعين عاماً على الجائزة الاستثنائية، عرض الفيلم في مهرجان وهران للفيلم العربي الذي اختتم الأسبوع الماضي، وهو شريطٌ (بلغة أشقائنا المغاربيين) لا يبرح ذاكرة من يشاهده، ليس لسعفته تلك، بل للمشهدية الأخّاذة في تصويره، وللحرارة العالية في حكايته وتفاصيله.
أُعطي يوسف شاهين سعفةً ذهبية في "كان"، قبل 18 عاماً، كانت تكريمية واحتفائية بمجمل تجربته. ونال اللبناني مارون بغدادي والفلسطيني إيلي سليمان، عن فيلميهما (خارج الحياة، 1991) و(يد إلهية، 2002)، في المهرجان العتيد، جائزة التحكيم الخاصة. ما يُبقي الجزائري، حمينة (81 عاماً) متوجاً، وحده، بالظفر بالجائزة الأهم، والأثقل مكانةً، بين كل جوائز السينما في العالم. الأمر الذي يعطيه ميزةً ينفرد بها عن أترابه العرب، وهو الذي حظي بما لم يحظ به أحدٌ منهم، منذ أربعين عاماً. والبادي أن الرجل، الأشيب والنحيل القامة، وذا الطبع الغاضب غالباً، على ما رأيته في تظاهرة وهران، حريصٌ على تظهير نفسه سينمائياً يواصل عمله وفنه، وإنْ في سنه المتقدمة، فقد أنجز أخيراً فيلماً جديداً (غروب الظلال). وحكى، في مقابلةٍ معه في صحيفةٍ جزائرية، أنه ينوي إخراج فيلم عن يهودي نمساوي اعتنق الإسلام، وأقام في السعودية، وتوفي عن أزيد من مائة عام.
أمام عاديّة ما صار ينجز في السينما العربية، وأمام التراجع الملحوظ في السينمات الجزائرية والمصرية والتونسية (أمثلة)، وعلى الرغم مما نصادفه من نتاجات عالية التميّز، نادرةٍ، في غير بلد عربي، لا يبدو أن أمام العرب، في السنوات المنظورة، فرصةً لكسر احتكار لخضر حمينة سعفة "كان" العربية الذهبية الوحيدة. والظاهر أن الشحوب الحاصل في الحياة العربية، وفي المنتوج الإبداعي العربي في غير حقل، يتوازى مع التردي المهول الحادث في الحالة العربية عموماً، فقد بتنا أمام سؤال بقاء الدولة العربية على حالها أم لا، في غضون اهتراءٍ يواكبه توحش خفافيش الإرهاب والتسلط والتجبّر، من أنظمةٍ حاكمة، ومن دواعش لها بيارقها وناسها في غير مطرح. وفي سياق كهذا، يغدو اشتهاء "سعفة" أخرى لفيلم عربي جديد ترفاً خارج السياق.
من طريف ما كشفه لخضر حمينة، في مقابلته الصحافية، أن سعفته ليست لديه، لأنها "مسروقة". تركها في مكتب الرئيس الجزائري الراحل، هواري بومدين، ليشاهدها زواره من الرؤساء والضيوف العرب والأجانب، لكنها لاحقاً اختفت من المكتب، ويقول صاحب (رياح الأوراس، 1966) إنه يعلم من "سرقها"، غير أن لا دليل قاطعاً لديه. وهذه مفارقةٌ مضافةٌ إلى متاهة البؤس العربي المديد، أنَّ جائزة عالمية كبرى يتباهى بها العرب لم تحظ بما يحفظ كرامتها، ويصون رمزيّتها، فضاعت، أو سُرقت بحسب من افتكّها (بحسب مفردة فصيحةٍ سمعتها كثيرا في الجزائر). وإذ أبدع حمينة كثيراً في إخراج (وقائع سنين الجمر)، بتصويره الرهيف الطبيعة والصحراء والحشود والجموع، فإنه، أيضاً، أبدع كثيراً عندما لم يُنجز فيلماً طلبه منه حافظ الأسد، عن إحدى المعارك، لأن الهزيمة كانت حصيلة العرب فيها، على ما قال له الأسد نفسه.