سامراء من التفجير إلى التغيير الديمغرافي

27 فبراير 2024

صورة جوية تظهر مدينة سامراء (5/2/2022/الأناضول)

+ الخط -

كان يوماً عاديا مثل باقي أيام بغداد بعد الغزو الأميركي في ربيع 2003. كان التقويم الزمني يشير إلى 22 فبراير/ شباط 2006. صباح يشبه بقية الصباحات، تفجيراتٌ تُسمع في الجانب الغربي من بغداد منذ ساعات الفجر الأولى، لم تغيّر من بدايات صباح العراقيين، فما إن أشرقت شمس ذلك اليوم حتى خرج الكسبة والموظفون والطلاب إلى مقاصدهم المختلفة، فقد اعتاد العراقيون المشهد، مشهد استهداف القوات الأميركية، سواء في المنطقة الخضراء المحصّنة أو دورياتهم العابرة أو حتى قواعدهم العسكرية الأخرى، غير أن ثمّة شيئاً كان يدور هناك في سامراء، يبدو أن خيوطه قد حيكت بإحكام، بينما كانت العيون تتابع سير عمليات المقاومة العراقية ضد المحتل.
ساعاتٌ قليلةٌ على شروق شمس ذلك اليوم، وإذا بعاجلٍ بلون الدم يطرّز شاشات العالم، تفجير مرقد الإماميْن العسكريين في سامراء، والتي لا تبعد أكثر من 120 كيلومتراً إلى الشمال من العاصمة بغداد، تفجير كنّا نتابعه بكثير من الحذر والترقّب خشية من تداعياته، وهو ما كان بالفعل، فما هي إلا ساعاتٌ قلائل حتى تحوّل المشهد من عملية مطارة الجهات الفاعلة إلى تصفيات طائفية امتدّت من سامراء إلى بغداد إلى ديالى إلى بابل حتى البصرة التي كانت قد عاشت سنوات مشابهة عقب الغزو الأميركي عام 2003 يوم تهجير سكّانها الأصليين بناء على دوافع طائفية بغية تغيير ديمغرافيا المدينة وهويتها.
لا يمكن لمن عاش تلك الأيام التي تلت التفجير أن ينسى ما جرى، لقد خلَت بغداد من أفواج القوات المحتلة وأرتالها، انكفأت إلى قواعدها فجأة، وكأنها كانت تعلم بالمخطّط، وفجأة ظهرت المليشيات المسلحة في شوارع العاصمة، وهي تستقلّ سيارات الجيش والشرطة وتحمل مختلف أنواع الأسلحة، وانتقاماً من تفجير المرقدين في سامراء، كانت كل مساجد بغداد وبيوت أهلها من السُنّة هدفاً لتلك المليشيات، لتبدأ واحدةٌ من أكثر فصول ما بعد الاحتلال الأميركي وحشية، صفحة الحرب الطائفية التي غيّرت ملامح مدن وشوّهت أخلاق مجتمعات بالكامل.

سيطرت ما تُعرف بالعتبة العسكرية على كل مقدّرات المدينة واستولت على الأراضي سواء التابعة للدولة أو حتى للمواطنين

بالمطلق، لم يكن تفجير سامراء إلّا صفحة أخرى من صفحات الغزو، فبعد أن فشلت أدوات الاحتلال في تفجير صراع طائفي بين العراقيين عقب الاحتلال مباشرة، وبعد أن فوجئت القوات المحتلة بحجم المقاومة المسلحة التي انطلقت في اليوم التالي للغزو؛ لم يكن هناك من بد إلا بتفجير مفتعل لمرقد ديني يقود إلى حرب طائفية تتزعمها تلك الوجوه والأحزاب التي جاءت بها أميركا على دباباتها، وهو ما كان، لتخمد بعد ذلك وتيرة المقاومة وتتفرّغ أميركا لمشاريعها التي نحتتها بيد إيرانية صرفة فتحوّل العراق إلى هذه التجربة المشوّهة من الديمقراطية التي نراها اليوم.
تداعيات ما جرى في 2006 فعلت فعلها لسنوات خلت، مع ذلك فإنّ ما جرى لسامراء المدينة ما زال ماثلاً، والإجراءات التي تلت التفجير متواصلة منذ ذلك التاريخ وكأنّ المدينة لبست لبوساً غير ما تعرفه منذ قرون خلت، فلم تعد المدينة إلى أهلها، ولم تعد هويتها كما عرفها العالم، بل باتت واحدةً من المستوطنات العسكرية التي تتحكّم بها مليشيات مسلحة وتديرها جهاتٌ نافذة بهدف تغيير ديمغرافية المدينة لتكون جزءاً من مشروع إقليمي تديره إيران منذ حتى ما قبل احتلال العراق عام 2003، يتضمّن من بين ما يتضمّنه، تحويل سامراء إلى محافظة جديدة بهوية شيعية.
تتعالى صرخات أهل سامراء، فقد سيطرت ما تُعرف بالعتبة العسكرية على كل مقدّرات المدينة واستولت على الأراضي سواء التابعة للدولة أو حتى للمواطنين بالترغيب أو بالترهيب، فقد أغلقت العتبة العسكرية المدينة القديمة، ومنعت ممارسة أي أعمال فيها بحجّة حمايتها، وطاولت يدها عمليات واسعة لاستملاك مقدّرات آلاف المواطنين من أهالي سامراء بحجّة الاستثمار، ومن يرفض فإن يد التهديد وحتى القتل تطاوله، حتى وصل الأمر، أخيراً، إلى منح العتبة العسكرية مساحة تقدر بنحو 48 دونما وسط المدينة القديمة لغرض إنشاء مجمّعات سكنية، وترويج هذا الأمر أنه استثمار تجاري واقتصادي.

ناشد شيوخ مدينة سامراء ووجهاؤها رئيس الحكومة محمد شيّاع السوداني من أجل وضع حدّ لتصرّفات العتبة العسكرية

أصدر معهد تشاتام هاوس في لندن دراسة عن الاستملاك الطائفي لتراث العراق الثقافي، جاء فيها أن منطقة المرقدين في سامراء مهملة، وأن البيئة المعمارية ذات الأهمية التاريخية في وسط سامراء بدأت بالتحوّل التدريجي من الوقف الشيعي، ويجرى هدم عشرات المباني وغيرها من المواقع التراثية التي تعود إلى الحقبة العثمانية، فضلاً عن تشريد عشرات آلاف من الأسر السنّية بعد سيطرة فصيل سرايا السلام، ما جعل الحياة الثقافية لسامراء أقلّ تنوعاً.
أخيراً، ناشد شيوخ مدينة سامراء ووجهاؤها رئيس الحكومة محمد شيّاع السوداني من أجل وضع حدّ لتصرّفات العتبة العسكرية، متهمين إياها بالسطو على أملاكهم، رافضين، في الوقت نفسه، عمليات إجبارهم على بيع ممتلكاتهم في المدينة القديمة، وأنها، العتبة العسكرية، "تمارس التغيير الديمغرافي القسري من خلال جلب ألف عائلة من خارج المدينة وإسكانهم في المنطقة القديمة المغلقة أمام أهالي سامراء، للعمل في مشروع إعادة إعمار ضريح العسكريين فيه".
أما الاستيلاء على أوقاف سنّية في سامراء من الوقف الشيعي ومصادرتها، فتلك حكايةٌ أخرى، وهو ما حذّر منه كتاب رسمي أرسلته الجهات الرسمية في المدينة إلى رئاسة الحكومة. وغير بعيد عن ذلك، محاولات العتبة العسكرية للاستيلاء على جامع سامراء الكبير، وتغيير اسمه، لا يبدو أنها ستتوقّف، خصوصاً أنّ هناك عملية غضّ طرف مقصودة تمارسها الحكومة الحالية ومن سبقها من حكوماتٍ حيال هذا الموضوع.
سامراء نموذج صريح وصارخ لما تقوم به القوى المتنفّذة داخل جسد الدولة العراقية، التي لم يعد بينها وبين الحكومة خطٌّ فاصل، الحكومة التي يبدو أيضاً أنه لم يعد هناك من خط يفصل بينها وبين المليشيات المسلحة التي جاءت بهذه الحكومة.

96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...