سارتر وإسرائيل ... الحقيقة المُخبّأة
"لقد تغيّر فيكتور كثيراً منذ قابل سارتر أول مرّة، مثل ماويين سابقين عديدين، فقد تحوّل إلى الرب، رب إسرائيل، نظراً إلى أنه يهودي" .. سيمون دي بوفوار عن بيني ليفني (فيكتور) سكرتير ساتر.
أعادت هازل رولي في كتابها "سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر .. وجها لوجه" (ترجمة محمد حنانا، دار المدى، 2017) موقف سارتر من قضية فلسطين المحتلة، وبالتحديد تشريع الوجود اليهودي فيها، وقيام الدولة الصهيونية. ونقلت تعليقات إدوارد سعيد على مشهد سارتر في المحفل الذي دُعي إليه من سارتر شخصيا، وغضب سعيد من فيكتور، سكرتير سارتر، في تغطيته على حضور سارتر المريض. وسبق أن كتب سعيد مقالة نقدية عن موقف سارتر، إلّا أنه كان ضعيفاً، في مقابل ما كشفت عنه رسائل دو بوفوار، ولو قُدّر لسعيد أن يطلع على هذه الرسائل، لربما اتخذ موقفاً اكثر استقلالاً من اليسار الوجودي، الذي خدمه سعيد وتقاطع معه، باسم النضال العام ضد الكولونيالية، وهو ما أجزم بتفاوته الشديد في نماذج سعيد وفرانز فانون، وفريق الوجودية الفرنسية، وهو مسارٌ مهم لرحلة الاستغراب العربي المؤجّلة. أشار سعيد إلى طريقة الأكل المثيرة للشفقة لسارتر المريض، للإشارة إلى أنه كان تحت سيطرة بيني ليفني، واسمه المستعار فيكتور، والذي ساهم في ضخّ الدفعة الأخيرة لتصريحات سارتر، والمقابلة التي نشرتها الصحافة الفرنسية، في آخر حياته، وحملت تقريعاً ساخراً من ليفني خلال توجيه أسئلته لساتر، بما فيها اعتذارية سارتر وتقاربه مع الفكرة الصهيونية.
كان سارتر فزِعاً من أن تنجح الجيوش العربية في إنهاء إسرائيل وحرص على أن تذهب ابنته بالتبنّي إلى القدس
وبحسب نقل رولي رسائل دو بوفوار، كانت هذه إحدى أهم القضايا التي قسّمت أسرة سارتر، حيث كان تكتل ليفني مع ابنة سارتر بالتبنّي، آرليت إلكايم، ضد دو بوفوار، وشكّكوا في دوافعها لمراهنتها على دوام السيطرة عليه حتى آخر حياته، وإلكايم من أسرة يهودية أيضاً، وقد ردّت على دو بوفوار، من حيث إن تلك المواقف والمساحة، التي خرج بها ساتر إلى المسرح رغم مرضه، كانت حقيقية، وكان الصراع قد امتدّ على إرث سارتر الثقافي، إضافة إلى مآل حقوق النشر، وما آل من ثروته لابنته بالتبني. والميراث الثقافي (أوراق سارتر الأخيرة) حرصت عليها دو بوفوار، غير أن الخلاف الشرس بينها وبين إلكايم وليفني منعها من الوصول إلى هذه الأوراق، ما دفع دو بوفوار إلى نشر كتابها عن سارتر بتفاصيل خطيرة، والأهم رسائلهما التي كانت في عهدتها، مع كل الفضائح والفظائع التي حوتهما، والأحاديث السرّية عن الآخرين، من أعضاء الأسرة الوجودية الخاصة لسارتر، غير أن إعادة سعيد السبب إلى رجعية ليفني لم يكن إلا جزءًا من الحقيقة، فقد كشفت الرسائل أن سارتر كان فزِعاً من أن تنجح الجيوش العربية في إنهاء إسرائيل، وحرص على أن تذهب ابنته بالتبنّي إلى القدس حيث يعتقد ميلاد هويتها، بل اتصل برئيس تحرير صحيفة فرنسية، بعد أن حاولت دو بوفوار وقف نشر اللقاء، وقال بموقف صارم "هذه آرائي الحرّة، وإن لم تنشرها أنت، فسأنشرها في صحيفة أخرى".
كان السياق الفكري والسياسي لتأييد اليهودية العالمية قوياً في ضمير سارتر، لكنه كان يختبئ خلف تعارضه مع موقف النضال العالمي الموحد الذي كان يستقطب أمماً عديدة في أفريقيا والوطن العربي وآسيا وغيرهم، وكان يقترن بقضية فلسطين، كجزء من الدلالة الأخلاقية على بغي الرأسمالية العالمية. لكن سارتر لم يشأ أن يُظهر سر تقاطعه مع هذه الكولونيالية الغربية وحنينه للذات اليهودية. وفي العموم هناك اشتباك متعدّد تحولت فيه أفكار حشودٍ من اليساريين الغربيين وليس الماويين فقط، إلى مواقف دعم لتل أبيب، في وقتٍ رفض فيه بعض المفكرين أن تُشرعَن اليهودية العالمية، ويُزكّى ميلاد دولتها على حساب الحقيقة.
الوجودية الحديثة، ومثليتها القهرية، تتستّر بقضية فلسطين في الوطن العربي، وهي تُنفّذ عملية إسقاط كامل للمجتمع العربي
وأطرح موقفاً صريحاً هنا، أن صحة الموقف من فلسطين لا يجوز أن تجعل العربي مرهوناً بهذه النخبة، وتزكية الانحراف والتدمير الفكري الذي تسعى به هذه الشخصية أو الأيديولوجية، خصوصا أن الوجودية الحديثة، ومثليتها القهرية تتستّر بقضية فلسطين في الوطن العربي، وهي تُنفّذ عملية إسقاط كامل للمجتمع العربي، وتنشر الفردانية المتوحّشة ضده، حتى أصبح الحديث عن فلسطين طقوس رقص وفولكلورا مزيفا، تُضلِّلُ به الحداثة في ثوبها الوجودي شباب فلسطين وبقية العرب.
تعود بنا الرسائل أيضاً إلى غضب بعض رفاق سارتر، وخصوصا عشيقته السوفييتية، التي نَظّمت له محاضرات لصالح اتحاد الكتّاب في موسكو، حيث رأت أن مواسم مدحه المتكرّرة السياسة السوفييتية الشيوعية تحمل كذباً صريحاً، وأنها هي بذاتها استقالت من اتحاد الكتاب، لكنه برّر لها بأنه يحرص على بقاء علاقاته مع موسكو الشيوعية، لتسهيل إصدار تأشيرة زيارتها لباريس، لقضاء وقت حميمي مع سارتر، وأيضاً اعتذر بأنه لا يُحبّ أن يُصرّح بموقفه ضد البلد المضيف.
مساحة سارتر في الكذب التي كُشِف عنها بكثافة في رسائله تعيد فهم موقفه الحقيقي من القضية العربية في فلسطين المحتلة، لتضعها تحت المجهر. ورغم أن قيمة العرب كشركاء نضال وجغرافيا لليسار كانت واسعة، إلا أنها لم تكن ذات أهمية، حتى في الحديث عن الجزائر، (قارن ذلك بموقف اليساري فرانز فانون) المختلف عن أسرة سارتر. وهناك حكاية مُؤلمة للعرب عرضت لها هازل، وكانت ضمن رحلات سارتر الأخيرة، حيث تقول إن بعضهم ظن أنه في رحلته الأخيرة لمصر، وبعد أن زار غزة، كان غاضباً متأثراً تلك الليلة، لكنها تكشف سبباً مختلفاً أعلنته المصادر، وهو ولع سارتر بشابة في فريق تنظيم رحلته المصري، فحاول أن يبني معها علاقة جنسية، لكنه لم يستطع فاستشاط غضبا، وأخذ يلعن المرشد، وهو شابٌ مصري، والرجل في غاية الاستغراب، حتى أخبره رفيق سارتر، معتذراً، إنهُ "ثملٌ للغاية دعنا نعِدْه إلى غرفته"... كم من المراجعات النقدية تبعثها هذه الحادثة!