سؤال الثورة الذي لم يُجب عنه الثوار

05 فبراير 2021
+ الخط -

يمر عقد على ذكرى الثورات العربية. ومرور العقود عادةً يزيد في الانتباه إلى ذكرى حدثٍ تاريخيٍّ كهذا، ويحفّز على طرح أسئلة صعبةٍ ومحوريةٍ للبحث والمناقشة، وخصوصا أنّ نهاية الثورات قد كتبت، وإن بقيت آثارها موجودة. وأحد هذه الأسئلة العويصة التي لم يُجَب عنها في أعقاب الثورة سؤال القصاص.

كان أبرز "مطلب" للثورة في مصر طوال عامي 2011 و2012 هو القصاص لدماء الشهداء. ولا تزال أحداث المظاهرات المطالبة باقية في أذهان من شاركوا ومن شهدوا ومن تفرّجوا على التظاهرات. وكان هذا المطلب هو الساري في جميع التظاهرات والفعاليات الكثيرة، ومن أبرزها تظاهرات جمعة 8 نيسان/ إبريل 2011. ولكن ما يثير الدهشة أنّ النشطاء والداعين إلى التظاهر لم يحاولوا مطلقًا البحث عن إجابة لهذا السؤال، فضلاً عن صياغتها صياغة تشريعية وقانونية، فاكتفوا بمطالبة "مراهقة" للقصاص لأجل الشهداء، وكأن مصباح علاء الدين سيتكفل بالإجابة الفورية. وفي الواقع، يقع فقدان الإجابة في إطار أشمل، وهو افتقاد الثورة الخطاب، وكلما فُقد الخطاب كانت الإجابة تميل أكثر إلى الحركة والصراخ والعنف في بعض الأحيان.

اكتفى النشطاء بمطالبة "مراهقة" للقصاص لأجل الشهداء، وكأن مصباح علاء الدين سيتكفل بالإجابة الفورية

وفي الواقع، كانت هناك معضلة قانونية حقيقية تعترض الإجابة على هذا المطلب، بل والتنفيذ، يمكن تفصيلها بأن الثورة، في أصلها، فعل تمرّد غير قانوني، بحسب أصل القانون الحديث. يقول المفكر الفرنسي، مونتسكيو، في القرن الثامن عشر، وهو مؤلف العمل الشهير "روح القوانين"، إنّ الرجل الذي يحرض جماهير الناس على الثورة يتكبّد ذنب الخيانة العظمى. (روح القوانين، الجزء 12)، فمحاولة إحداث ثورة وتمرّد في الدولة الحديثة عُدّ عملاً مجرمًا منذ نشأة الدولة الحديثة. ولذا نصّ قانون العقوبات المصري على عقوبات الجرائم المرتكبة ضد "الدولة" وضد "المجتمع"، وعلى الأخص المادة 86 وما تليها، وتجرّم هذه المواد أي فعل تمرّد على الدولة.

وعلى الرغم من أنّ الثورة المصرية خلال 18 يومًا كانت سلمية في مجملها، إلّا أنّ أحداث عنفٍ تخللتها يجرّمها القانون، مثل حرق عربات الأمن، وتعطيل الطرق وحرق بعض البنايات، وغيرها مما وثقتها كاميرات المصورين وحفظتها ذاكرة المشاركين، فالمعضلة الأساسية أنّ الثورة، بحد ذاتها، عمل غير قانوني؛ ولذا كانت أوّل مادة من مواد الإعلان الدستوري الصادر في 13 فبراير/ شباط 2011 عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة: تعطيل العمل بأحكام الدستور. مُجّدت الثورة المصرية، وتنوسي هذا الأصل، وتنوسي أنّ قانون العقوبات المصري المأخوذ من قانون الدول الحديثة لن يتغير، بل سيبقى، فالسؤال الذي كان يجب أن يُطرح: كيف لقانون يجرّم التمرّد ضد الدولة وأجهزتها أن يستند إليه في المطالبة بالقصاص من منفذي أوامر الدولة. وهو في الحقيقة يحمي الدولة، وهذه مغالطةٌ منطقيةٌ يصعب حلّها في الواقع.

الثورة المصرية خلال 18 يومًا كانت سلمية في مجملها، إلّا أنّ أحداث عنفٍ تخللتها يجرّمها القانون، مثل حرق عربات الأمن، وتعطيل الطرق

وربما كانت هذه من أصعب المعضلات التي واجهت أول حكومةٍ منتخبة بعد الثورة، وهي حكومة الرئيس الأسبق محمد مرسي. حاولت تقديم إجابة قانونية عملية لتنفيذ المطلب. تقول أرشيفات الثورة إنّ قانونًا صدر في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2012، رقم 89، بـ"العفو الشامل عن بعض الجرائم المرتكبة في أثناء ثورة 25 يناير". وكانت قد حُرّكت بعض القضايا أمام القضاء على خلفية أحداث عنف ارتكبت في أثناء الثمانية عشر شهرًا من التظاهرات قبل رئاسة مرسي. وقدّمت في هذا القانون حماية تامة قانونية وقضائية لمن ورد اسمه متهمًا في أيّ أحداث تخصّ الثورة. نصت المادة الأولى "يُعفى عفوًا شاملاً عن الجنايات والجنح والشروع فيها التي ارتكبت بهدف مناصرة الثورة وتحقيق أهدافها في المدة من 25 يناير 2011 وحتى 30 يونيو 2012 فيما عدا جنايات القتل العمد". وقدّم القانون حلولاً إجرائية تخص التظلّم والاستئناف والنقض لضمان التبرئة التامة لكلّ من ورد اسمه متهمًا في أحد القضايا التي حُرّكَت ضد الثورة.

ثمّ كان "الإعلان الدستوري بتدابير حماية الثورة" الصادر في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، والذي أغضب النشطاء السياسيين بسبب مادته الثانية التي حصّن فيها الرئيس الأسبق قراراته، في حين أنّ باقي مواد ذاك الإعلان الدستوري كانت بمثابة التشريع القانوني اللازم لتحقيق مطلب الثوار. وكان كذلك قانون "حماية الثورة" الصادر في اليوم التالي للإعلان السابق، والذي استثنى بوضوح موادّ قانونية من قانون الإجراءات الجنائية الذي يعترض تنفيذ هذا المطلب، وهي المواد 455 و456 و197 من القانون، والتي تتعلّق بالأحكام النهائية في الدعاوى الجنائية، كما احتوى مواد تشريعية أخرى لتيسير مطالبات الثوار وتحقيقها.

معضلة قانونية يتناقض فيها مطلب عادل مع نصوص القانون الحديث

يحمي قانون العقوبات، وخصوصا المادة 86، الدولة بوضوح ضد أي حركة تمرّد أو شغب من المواطنين، وتجرّم جميع الأفعال التي ترتكب في أثناء التمرّد والثورة، مثل قطع الطريق العام، وتعطيل المواصلات، والتي ليس من بينها جناية القتل العمد. والواقع يقول إنّ هذه الأفعال جميعها ارتُكبت في أثناء الثورة، ما يعني في الحقيقة معضلة قانونية يتناقض فيها مطلب عادل مع نصوص القانون الحديث، بل ومع الأصل التاريخي لهذا القانون الذي ترافق وتزامن مع نشأة الدولة القومية الحديثة، والذي كان هدفه الأول حماية الدولة الوليدة الناشئة.

انتهت الثورة، وتلتها أحداثٌ جَبّتها، وظلّ هذا السؤال معلّقًا، ولم يتأهّل أيٌّ ممّن شاركوا في الثورة للإجابة عن هذا السؤال الذي انتهت صلاحيته في الواقع، وكان مصيره إلى أرشيف التاريخ، مثلما كان مصير القرارات والإعلانات الدستورية التي حاولت تقديم إجابة عملية أو ممكنة في إطار القوانين الحاكمة.

4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
خديجة جعفر

كاتبة وباحثة مصرية، ماجستير في الفلسفة من الجامعة الأميركية في القاهرة.

خديجة جعفر