هل زيارة اللجنة الأممية للإخفاء القسري العراق خطوة أولى؟
زارت لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الإخفاء القسري العراق، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، لتحديد ظاهرة ممارسة الإخفاء القسري والدفع نحو معالجتها. حيث تقاعسـت السـلطات العراقية باسـتمرار عـن إنهاء هـذه الممارسة، أو توضيـح مصير حالات الإخفاء، أو توفّر سـبل الإنصاف المناسبة للعائلات المتضررة. وسيتطرّق هذا المقال إلى ممارسة الإخفاء القسري في العراق، وزيارة اللجنة الأممية، وأخيراً ما أصدرته من توصيات.
... بعد عقود من الصراع والعنف السياسي في العراق، صنّف الإخفاء القسري في العراق بأنه "مشكلة ذات أبعاد هائلة". حيث إنه لا يطاول فقط الضحية، بل أيضاً عائلات الضحايا، ومختلف أطياف المجتمع. وتتراوح الأعداد في المنشورات والوثائق الرسمية ما بين 250.000 إلى مليون مختفٍ، ما يؤكد انتشار حالات الإخفاء في البلاد. ويرجع عدم وجود عدد محدّد لحالات الإخفاء إلى غياب إحصاء موحّد وأيضاً مفهوم واحد للإخفاء القسري، بالإضافة إلى حالةٍ من الإنكار في ارتكاب عدد كبير من هذه الحالات، سواء من القوات الحكومية أو المليشيات المسيطرة.
مرّت عدة حقب على العراق، أنتجت حالات إخفاء قسري كثيرة، بدءاً بحقبة نظام البعث في العراق وإقليم كردستان (1968-2003)؛ ثم تلاها الغزو الأميركي للعراق عام 2003؛ مروراً بإعلان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قيام خلافة إسلامية على جزء من أراضي العراق والعمليات العسكرية ضده (2014-2017)؛ ثم فترة المظاهرات المناهضة للحكومة (2018-2020). وفي جميع هذه السياقات، كان جُناة الإخفاء القسري عناصر أجهزة أمنية تابعة للدولة، وقوات عسكرية أجنبية، وجهات فاعلة مسلّحة يُشار إلى معظمها عادةً باسم "المليشيات" التي لها مستويات مختلفة من الانتماء أو القرب من الدولة. وتُسمّى المليشيات المشار إليها سابقاً رسمياً "الحشد الشعبي"، وهي تتكوّن من وحدات عسكرية مختلفة، دعمت القوات المسلحة العراقية في أثناء القتال ضد "داعش" منذ 19 يناير/ كانون الأول 2016، وضمّت هذه الوحدات رسمياً بموجب مرسوم رئيس الوزراء إلى القوات الأمنية العراقية في 8 مارس/ آذار 2018.. وقد تأثر جميع سكان العراق، بغض النظر عن مجموعاتهم العرقية والدينية، بهذه الممارسة المتفشية من الإخفاء القسري.
تقاعسـت السـلطات العراقية باسـتمرار عـن إنهاء مسألة الإخفاء القسري، أو توضيـح مصير حالات الإخفاء، أو توفر سـبل الإنصاف المناسبة للعائلات المتضررة
صادق العراق في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2010 على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري. وقد عرّفت المادة الثانية من الاتفاقية الإخفاء القسري بأنه "الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرّفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حرّيته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون".
وكون العراق أصبح ملتزما بتنفيذ مواد الاتفاقية، طلبت لجنة الأمم المتحدة المعنيّة بحالات الإخفاء القسري، عام 2015، إجراء زيارة إلى العراق بموجب المادة 33 من الاتفاقية. في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، قبلت الحكومة العراقية طلب الزيارة، ما شكّل خطوة إيجابية حتى مع التأخر ست سنوات في الردّ على طلب هذه الزيارة. وزارت اللجنة العراق من 12 إلى 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022. وتألف الوفد من رئيسة اللجنة ورئيسة الوفد، كارمن روزا فيلا كوينتانا، ونائبة رئيسة اللجنة، باربرا لوشبيهلر، ونائب رئيسة اللجنة محمد عياط، ورئيسة أمانة اللجنة، ألبان بروفيت.
زار الوفد الأممي مدن الأنبار وبغداد وأربيل والموصل وسنجار، وعقد 24 اجتماعاً مع السلطات العراقية، كما أجرى مناقشات مع المسؤولين الحكوميين، بمن فيهم المسؤولون عن التحقيق في حالات الإخفاء القسري، وأولئك الذين يعملون على تحديد مكان الأشخاص المخفيين، والمسؤولين عن وضع وتنفيذ السياسات العامة ذات الصلة. والتقى أيضاً أربعة وفود من المفوضية العليا لحقوق الإنسان في المحافظات التي تمت زيارتها، وعقد سبعة اجتماعات مع 171 شخصا هم ضحايا سابقون أو أقارب ضحايا لإخفاء قسري، والتقى أيضاً منظمّات المجتمع المدني من الأنبار وبغداد وكركوك وديالى وأربيل ونينوى وصلاح الدين. فضلاً عن ذلك، تمكّن الوفد من أن يتابع عمليتين لاستخراج الجثث، وزار مركزاً مؤقتاً لتحديد هوية الحمض النووي في سنجار. كما زار أربعة أماكن للحرمان من الحرية: مركز احتجاز أربيل؛ مركز الاحتجاز الفيصلية في الموصل؛ مركز احتجاز مطار مثنى في بغداد؛ وأخيراً مركز الاحتجاز في مطار بغداد الدولي. وكانت زيارة هذه المراكز للاحتجاز لأجل فحص كيفية عمل أنظمة التسجيل المحتجزين فيها، حيث يعدّ تسجيل الأشخاص المحرومين من حريتهم وسيلة أساسية لمنع الإخفاء القسري.
على العراق أن يطلق، على وجه السرعة، حملة وطنية ودولية واسعة للإعلام والتوعية بشأن حالات الإخفاء القسري في البلاد
وفي 31 مارس/ آذار 2023، أصدرت لجنة الامم المتحدة المعنية بحالات الإخفاء القسري تقريرها عن هذه الزيارة، وختمته بمجموعة من التوصيات. وجاء من الأولويات القصوى أن يتخذ العراق تدابير فورية لوضع الأسس للتصدّي لحالات الاختفاء القسري. وهذا يستلزم:
(أ) توضيح مفهوم الإخفاء القسري لجميع الجهات الفاعلة المعنية، حيث أظهرت الاتصالات مع السلطات الوطنية، طوال هذه الزيارة، انعدام الوضوح السائد فيما يتعلق بمفهوم الإخفاء القسري. حيث يوجد ارتباك حتى بين السكان، وغالباً ما يتم استخدام مجموعة واسعة من المصطلحات، مثل الاختطاف والاختفاء والاعتقال والفقدان على أنها إخفاء قسري. وهذا يجعل مفهوم الإخفاء القسري مختلطا بمفاهيم غير مرتبطة كما أوضحت الاتفاقية.
(ب) مراجعة الإطار القانوني الوطني وتجريم الإخفاء القسري باعتباره جريمة قائمة بذاتها، حيث لا يوجد تشريع بذاته يعرّف ويعاقب الإخفاء القسري كما هو منصوص عليه في الاتفاقية، ولكن هنالك محاولات متعدّدة لتقديم مشروع قانون بشأن الإخفاء القسري في العراق، ولكنها ما زالت تحت قيد المناقشة في مجلس النواب.
(ج) توضيح الإطار المؤسّسي وتعزيزه وضمان التنسيق المنهجي والفعّال بين المؤسّسات الحكومية، حيث يوجد حالياً أكثر من 17 مؤسّسة حكومية تتحمّل مسؤوليات تتعلق بالاختفاء، ولكن لا تعمل بشكل متناسق وفعّال.
(د) إنشاء سجل موحّد وموثوق به على الصعيد الوطني لحالات الاختفاء في البلاد منذ عام 1968، لأجل تنفيذ ذلك يجب تجميع المعلومات من مصادر مختلفة وتنظيمها بحيث يمكن دمجها في هذا السجل.
بعد عقود من الصراع والعنف السياسي في العراق، صنّف الإخفاء القسري في العراق بأنه "مشكلة ذات أبعاد هائلة"
تشكّل هذه المتطلبات شروطًا مسبقة لإنشاء استراتيجية فعالة لمنع حالات الإخفاء القسري في العراق والقضاء عليها. .. بالإضافة إلى ذلك، أكّدت اللجنة أن جميع الأشخاص المحرومين من حريتهم، بمن فيهم المشتبه في ارتكابهم أعمالاً إرهابية، يجب أن تُتاح لهم إمكانية الاتصال بمحامين منذ بداية حرمانهم من حريتهم. وينبغي السماح بشكل منهجي بزيارات المفوضية العراقية العليا لحقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية وهيئات المراقبة الدولية إلى جميع أماكن حرمان الحرية، أياً كانت الوزارة المسؤولة عنها. وأخيراً شدّدت اللجنة على أهمية أن تُدرج المواضيع المتعلقة بإخفاء الأشخاص في المناهج الجامعية، وينبغي على العراق أن يطلق، على وجه السرعة، حملة وطنية ودولية واسعة للإعلام والتوعية بشأن حالات الإخفاء القسري في البلاد.
أمام العراق أربعة أشهر لتقديم أي ملاحظات قد يود إبداءها في ما يتعلق بتقرير زيارة اللجنة الأممية. وسيتم نشر هذه الملاحظات في حال تقديمها على صفحة الويب الخاصة باللجنة. بعد انقضاء هذه الفترة، ستتابع اللجنة تنفيذ توصياتها وفقاً للاتفاقية، بالتنسيق والتعاون مع العراق ومختلف الجهات الفاعلة المعنية. لذلك، على السلطات العراقية استغلال هذه الزيارة بمنظور إيجابي، وتنفيذ التوصيات الواردة في تقرير زيارة اللجنة بشكل فعّال، وبحسن نية من خلال اعتماد الاستراتيجية المذكورة أعلاه لمنع الإخفاء القسري والقضاء عليه، وتوفير إجراءات مناسبة للبحث عن الحقيقة والمساءلة والتعويض في حالات الإخفاء القسري. وبالنسبة لأهالي ضحايا الإخفاء القسري، ليست الزيارة رمزية فقط، بل تعني الكثير لهم، فهي تمنحهم الأمل، وسوف تشكّل لهم خطوة إلى الأمام في معرفة مصير أحبائهم...
فلتكن التوصيات الصادرة عن هذه اللجنة بمثابة خريطة طريق للقضاء على هذه الممارسة المتفشّية في العراق.