زيارة إلى ثورة يناير في ذكراها العاشرة
تطلّ علينا هذه الأيام ذكرى مرور عشر سنوات على اندلاع الثورة المصرية في 25 يناير/ كانون الثاني 2011، وهذه مناسبة تستحق التوقف عندها بالبحث والتأمل. فالجيل الذي كان عمره عشرة أو خمسة عشر عاما أصبح عمره الآن عشرين أو خمسة وعشرين عاما، أي في المرحلة التي يستعد فيها لحمل الراية، لكنه تعرّض منذ عام 2014 لعملية تزييف وعي ممنهجة، أدّت إلى تشويه رؤيته لما حدث في هذه الثورة وبعدها، فالرواية الرسمية تروّج أن ثورة يناير كانت نتاج مؤامرة خارجية تورط فيها عملاء من الداخل، بينما تروج جماعة الإخوان المسلمين أنها ثورة شعبية تمت تحت قيادتها وأوصلتها إلى السلطة عبر انتخابات حرّة نزيهة، ثم أزيحت عنها بثورة مضادة قادها انقلاب عسكري.
لا توجد رواية دقيقة ومكتملة لما جرى في مصر في 25 يناير وبعده، فكل طرفٍ يروي القصة من زاوية ما رآه أو ما يتسق مع مصالحه وقناعاته الفكرية والسياسية. ولأنه أتيح لي أن أتتبع مسار هذه الثورة من مواقع ثلاثة: باحثا أكاديميا في العلوم السياسية، وناشطا لعب دور المنسق العام للحملة ضد التوريث ثم للجمعية الوطنية للتغيير، وكاتب عمود يومي في صحيفة "المصري اليوم" يتيح له التعليق على الأحداث الجارية يوما بيوم، أقترح على القارئ أن أصحبه في زيارة جديدة أسرد له فيها حصيلة رؤيتي لما جرى، عبر ملاحظات أجملها على النحو التالي:
أولا: لم تندلع ثورة يناير فجأة. سبقتها ومهدت لها جملة من الأنشطة والفعاليات قادتها حركات احتجاجية، منها الحركة المصرية للتغيير (كفاية) وحركة 6 إبريل والحملة المصرية ضد التوريث والجمعية الوطنية للتغيير وغيرها. أما الشرارة التي أشعلت الثورة فكانت وقفة احتجاجية دعت إليها وقادتها رموز شبابية تنتمي إلى الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، الأكثر تعليما وانفتاحا على الغرب وإتقانا لوسائل التواصل الاجتماعي، وألهمتها الثورة التونسية التي كانت قد نجحت في إزاحة بن علي.
رفضت المؤسسة العسكرية أوامر بفضّ المظاهرات بالقوة، لاعتراضها على مشروع التوريث، وليس لأنها كانت مؤيدة للثورة أو داعمة لمطالب التغيير الجذري
ثانيا: لم تنخرط معظم الأحزاب والجماعات السياسية الرسمية، بما فيها جماعة الإخوان، في فعاليات الثورة، وتنزل إلى الشارع المحتقن، إلا بعد أيام من بداية هذه الوقفة الاحتجاجية، الأمر الذي ساعد على تحويلها إلى ثورة شعبية عارمة ومصممة على إسقاط نظام حسني مبارك.
ثالثا: رفضت المؤسسة العسكرية أوامر بفضّ المظاهرات بالقوة، لاعتراضها على مشروع التوريث، وليس لأنها كانت مؤيدة للثورة أو داعمة لمطالب التغيير الجذري للنظام القائم. (راجع مقالنا في "المصري اليوم" بتاريخ 19/12/2011 "ضد التوريث وليس مع الثورة").
رابعا: شهدت الأيام الثمانية عشر للثورة وحدة شعبية رائعة، عبرت عن نفسها داخل ميادين الاعتصام، حيث وقف المسلم إلى جانب القبطي، والسافرة إلى جانب المحجبة، والعلماني إلى جانب الإسلامي، والليبرالي إلى جانب القومي، والشاب إلى جانب الشيخ، غير أن هذه الوحدة عكست إجماعا حول هدف إسقاط النظام القائم، وليس حول شكل أو مضمون النظام الذي ينبغي أن يحل محله أو مضمون هذا النظام.
خامسا: ما إن نجحت الثورة في إجبار مبارك على التخلي عن السلطة، حتى تفرّق الجمع وخلت الميادين من الحشود، وبدأت العملية السياسية تنتقل من الشارع إلى الغرف المغلقة. هنا ظهرت ثلاث قوى رئيسية يسعى كل منها إلى أن تكون له اليد العليا في مسار الأحداث: المؤسسة العسكرية التي تسلمت السلطة من الرئيس المخلوع، وتولت رسميا إدارة المرحلة الانتقالية، جماعة الإخوان والمتحالفين معها من فصائل التيار الإسلامي، شباب الثورة الذين لم تكن لهم قيادة موحدة وتفرّقوا شيعا متنافسة، بل ومتصارعة أحيانا. وبينما اتسمت العلاقة بين المجلس العسكري (المجلس الأعلى للقوات المسلحة) وجماعة الإخوان بالتناغم والانسجام شهورا طويلة أعقبت الثورة، كان شباب الثورة يريدون الضغط من خلال الشارع على المجلس لحمله على إجراء عملية تطير واسعة النطاق، خصوصا في صفوف الأجهزة الأمنية والقضاء، لكن الجماعة كانت ترفض وتتعجل الذهاب إلى الانتخابات. لذا راحت العلاقة بينهم وبين كل من الجماعة والمجلس العسكري تزداد توترا يوما بعد يوم، ولم تتغير مفردات هذه المعادلة إلا بعد أن نقضت الجماعة عهدها المعلن بعدم خوض الانتخابات الرئاسية بمرشح من صفوفها.
سادسا: جرت أول انتخابات رئاسية بعد الثورة في أجواء اتسمت بالاستقطاب بين أطراف المعادلة الثلاثة. ولأن شباب الثورة فشلوا في الاتفاق على مرشح رئاسي واحد يمثلهم، انحسر الاختيار في الجولة الثانية بين مرشح الإخوان والمرشح غير الرسمي للمؤسسة العسكرية. وحين فاز محمد مرسي بهامش ضئيل من الأصوات، لم يدرك حقيقة أنه فاز بفضل أصوات علمانية رفضت تأييد مرشح المؤسسة العسكرية الذي اعتبرته مرشح الثورة المضادّة.
تركّزت مطالب الجماهير العريضة التي خرجت للتظاهر في 30 يونيو 2013 حول الانتخابات الرئاسية المبكّرة، ولا شك في أنها فوجئت بتنحية الرئيس المنتخب واعتقاله
سابعا: أبدت رموز علمانية عديدة استعدادها للتعاون مع مرسي إذا تصرّف رئيسا لكل المصريين، وليس ممثلا للجماعة في القصر الرئاسي، وأبرمت معه اتفاقا مكتوبا (في فندق فيرمونت)، لكنه، يرحمه الله، لم يلتزم بنصوصه، وفضل التحالف مع الجماعات السلفية بدلا من العمل على جمع صفوف شركاء الثورة، وهو ما ظهر جليا من خلال "مؤتمر نصرة سورية" الذي حرص مرسي على حضوره بنفسه، فكانت القشّة التي قصمت ظهر البعير، وفتحت الباب أمام تشكيل حركة "تمرّد" التي طالبت بانتخابات رئاسية مبكرة، وحظيت بتأييد جماهيري واسع، استغلته مؤسسات الدولة العميقة وفلول النظام القديم.
ثامنا: تركّزت مطالب الجماهير العريضة التي خرجت للتظاهر في 30 يونيو/ حزيران 2013 حول الانتخابات الرئاسية المبكّرة، ولا شك في أنها فوجئت بتنحية الرئيس المنتخب واعتقاله. ولو كان مرسي قد قبل بانتخابات رئاسيةٍ مبكرةٍ لتغير مسار الأحداث ومصير الثورة، كان هذا الخروج الجماهيري المكثف دليلا على فقدان الجماعة حاضنتها الشعبية، لكنه لم يكن يعني بالضرورة موافقة على الطريقة العنيفة التي تم بها فض الاعتصامين في ميداني رابعة العدوية والنهضة، أو لاحقا على الإهمال الذي تعرّض له الرئيس المنتخب في أثناء اعتقاله وأدّى إلى وفاته، وقد تطلبت هذه الجرائم تحقيقات تجريها جهات مستقلة ومحايدة، لم تتم.
تاسعا: عكست ضخامة المظاهرات التي خرجت في 30 يونيو حجم التحالف الذي تحقق تلقائيا بين قوى الدولة العميقة والقوى العلمانية الرافضة حكم جماعة الإخوان المسلمين، بما في ذلك قوى شبابية عديدة كانت قد لعبت دورا حاسما في تفجير الثورة. ويبدو أن هذه الأخيرة تصورت خطأ أن المؤسسة العسكرية يمكن أن تلعب في هذه المرحلة دورا شبيها بالذي لعبته عند انطلاق ثورة يناير، واتضح لاحقا أن هذا التصور انطوى على حسن نية مفرطة.
لم تدرك القوى العلمانية التي شاركت في "انتفاضة" 30 يونيو أن مصر تتجه نحو إقامة نظام يقوده رجل واحد، وتسيطر عليه الأجهزة الأمنية
عاشرا: لم تدرك القوى العلمانية التي شاركت في "انتفاضة" 30 يونيو أن مصر تتجه نحو إقامة نظام يقوده رجل واحد، وتسيطر عليه الأجهزة الأمنية، إلا تدريجيا ومن خلال ضربات متلاحقة، بدأت بإعلان المشير عبد الفتاح السيسي ترشيح نفسه في انتخابات 2014، وانتهت بإجراء تعديلات دستورية تمكّنه من البقاء في السلطة حتى عام 2030.
أدرك أن كثيرين سوف يختلفون مع تلك الاستنتاجات، وهذا حقهم، غير أنني أود من القراء محاولة استعادة الأجواء التي سادت بين شركاء الثورة بعد تنحّي مبارك. لذا أدعو إلى تأمل فحوى رسالة وجهها إلي عضو مكتب الإرشاد في جماعة الإخوان المسلمين، محمود غزلان، ردا على مقال انتقدت فيه موقف الجماعة الرافض للمشاركة في مظاهرة "مليونية" تطالب المجلس العسكري بتطهير صفوف القضاء والأجهزة الأمنية قبل إجراء الانتخابات. فيما يلي فقرات مطولة من الرسالة المنشورة في الموقع الرسمي للإخوان يوم 31/5/2011 تحت عنوان: "رسالة مفتوحة إلى الدكتور حسن نافعة"
يقول غزلان: "الدكتور حسن نافعة رجل نحترمه ونقدره، .. كما نشكره على مواقفه المنصفة من الإخوان المسلمين إبّان طغيان النظام البائد ... لقد اشتركنا معك - وآخرين من القوى الوطنية في الحملة ضد التوريث، والجمعية الوطنية للتغيير- وزكّيناك مُنسقا عامّا لهما، لثقتنا في وطنيتك وكفاءتك، وحرصنا على لمِّ الشمل ووحدة الصف وأن نتعاون بأقصى ما نستطيع فيما نتفق عليه، فإذا اختلفنا فمن حقِّ كل فصيل أن يفعل ما يقتنع به دون نكير.... (لكن) هل المطلوب أن يفكر المفكرون، ويقرر مَن يتسمون بالنخبة وعلى الإخوان التنفيذ، فإن أبوا فيكون نصيبهم الهجوم والهجاء؟.. أليس من حقنا أن نفكر ونقرر ونفعل ونتحمل نتيجة هذا كله؟ أم من حقِّ الآخرين أن يفكروا ويُقرروا ونتحمل نحن نتيجة تفكيرهم؟ هل هناك أحد يحترم نفسه وإخوانه وجماعته يقبل هذا؟ ..أذكر هذا كله وبين يدي تعليق على مقال لسيادتك في المصري اليوم في 30/5/2011م تحت عنوان (الإخوان ولعبة السياسة) شننت فيه هجوما ضاريا على الإخوان فقلت: (لا أظن أنني أُبالغ إن قلت إن الأداء السياسي للجماعة، الذي اتسم بالغموض في بعض المواقف، ولم يكن بنَّاءً في مواقف أخرى كثيرة- خاصة بعد الثورة- أصبح الآن مستفزّا ومُخَرِّبا، وخطرا على الثورة، بل يهدد بضياع فرصة حقيقية تتيحها ثورة 25 يناير لتأسيس نظام ديمقراطي حقيقي في مصر، وتلك جريمة يتعين أن يتحمل كلُّ مَن يتسبب في وقوعها مسؤوليتها كاملة أمام التاريخ، ولا أظن أنني في حاجة للتدليل بأمثلة على ما أقول، ويكفي أن نسترجع موقف الإخوان من مظاهرة الجمعة الماضية..).
جماعة الإخوان المسليمن كانت منسجمة إلى حد التحالف مع المجلس العسكري
إنني أحسب أن علاقة المودة التي تربط بين سيادتك وبين كثير من قيادات الإخوان المسلمين كانت تسمح لك - ولا أقول تفرض عليك - أن تتصل بأحدهم إذا غمَّ عليك تفسير موقف.. ثم تستدل بموقفنا من مظاهرة الجمعة الماضي 27/5/2011، وهنا نعود للسؤال: هل يجب علينا أن نهرع لتنفيذ كل ما ترونه؟... إننا قررنا - يا سيدي- ألا نشارك في مظاهرة هذه الجمعة لأسباب، فقد جاءتنا المعلومات أن المشاركين في هذه الجمعة ثلاث فئات: الأولى: الذين يرفضون حتى الآن نتائج الاستفتاء على تعديل الدستور، ولا يحترمون الشعب، ولا إرادته، ويريدون إسقاط الإعلان الدستوري، ووضع الدستور أولاً عن طريق لجنة لا ينتخبها الشعب ولا نوابه، ثم تأجيل الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وتمديد الفترة الانتقالية، بما يعني بقاء المجلس العسكري في حكم البلاد وإدارتها.. الفئة الثانية: فئة تسعى للصدام مع المجلس العسكري، وتوجيه السباب له ولقيادته رغبة في إجهاض الثورة. الفئة الثالثة: أصحاب المطالب الوطنية المشروعة التي نوافقهم عليها جميعًا، من الإسراع بالمحاكمات، واستعادة الأموال، وحل المجالس المحلية، وتغيير الوزراء الموالين للنظام القديم. ولقد رأينا أن حشد رجالنا سوف تستخدمه الفئة الأولى والثانية لإظهار أن مطالب الأولى هي مطالب أغلبية المتظاهرين، ...لقد امتنعنا مرة سابقة عن المشاركة، وخرجت سيادتكم تكتب أن المظاهرة كانت حاشدة، وأن الجماهير لم تعد بحاجة إلى الإخوان المسلمين، وسعدنا بهذا التقرير.. ثم إنني أريد أن أخاطب ضميرك، هل هناك حزب، أو فصيل سياسي، أو جماعة سياسية قررت مثلما قررنا أننا لن نرشح أحدًا منَّا للرئاسة، بل لن ندعم أحدًا منَّا ترشح مستقلاً؟ هل هناك من وضع سقفًا لمرشحين للبرلمان وفي مكنته أن يرفع السقف لينافس على كل المقاعد؟ لو قرّرنا نقيض ما قررناه؛ أليس ذلك من حقنا كجماعة وطنية؟ أخشى أن تقول كما قال البعض: إنكم تمنون علينا بذلك؟ ونحن نقول إن المنة لله وحده، ولكننا نريد مشاركة الجميع، ونرفض الإقصاء والاستبعاد..".
أظن أن هذه الرسالة كاشفة لحقيقتين على جانب كبير من الأهمية: أن الجماعة كانت في ذلك الوقت منسجمة إلى حد التحالف مع المجلس العسكري. إعادة التعهد أمام شركاء الثورة بأن الجماعة لن تخوض الانتخابات الرئاسية بمرشّح من عندها، وهو التعهد الذي أدّى عدم الوفاء به إلى نتائج كارثية على الجميع، وليس فقط على الجماعة.