زواج في الخيمة
لن نملّ، نحن أبناء من عاش آباؤهم وأمهاتهم زمن النكسة في عام 1967، من تذكّر حفلات زواج أقيمت زمن الحرب من دون احتفال سوى الإعلان عن زواج فلان بفلانة بين الجيران، وأن تنتقل العروس بثوب أبيضٍ خيط على عجل، وزينة منزلية أعدّتها نساء الحارة، إلى بيت العريس القائم على طرف المخيّم، وفيما يتجمّع بعض الأطفال الفضوليين حول العروس المُطرقة أرضاً، المستسلمة لقرار ذويها بأنّها يجب أن تتزوّج على عجل، وبمهرٍ أقلّ، وبلا فرحٍ ظاهر، علّهم، أي هؤلاء الفضوليين الصغار، يقتنصون دمعةً فارّة من عينيها يُخبرون عنها أمّهاتهم، ما يعني عدم رضا العروس عمّا يحدث، وعدم قدرتها على الاعتراض أيضاً.
كان ذلك يحدُث في البيوت القرميدية التي تكوّن مخيّماً كبيراً للاجئين جنوب القطاع، وتحديداً في مدينة خانيونس، وحيث أخبرتنا أمّي عن طقوس زواجها السريعة، والتي لم تزدْ عمّا أسلفنا، فيما حظيت ببعض المصاغ لأنها لم تكن "غشيمة" حسب تعبير جدّي، أي والد العريس، فهي كانت متعلّمة، وتعمل معلمةً لأطفال المخيّم، وكذلك كان أبي معلّماً.
تعقد اليوم حالات زواج بين الخيام في أماكن النزوح المكدّسة، وحيث تتنافى كل سبل الحياة، ولكن تظهر بين الفينة والأخرى من خلال وسائل التواصل الاجتماعي عباراتُ الترحيب بهذه الخطوة على أنها دليل لاستمرار الحياة وإرادة الشعب الذي يُباد، وقد كُتب على قماش خيمة من الخارج جواب لفريد عمارة، فحواه على الأقل نخاف معاً، وذلك ردّاً على تساؤل تميم البرغوثي: لماذا يُلحّ علينا الحبُّ وقت الحرب... والحقيقة المجرّدة أن حالات الزواج القليلة التي جرت خلال الحرب كانت إتماماً لخطواتٍ سابقة، فهي حالاتٌ تم فيها عقد القران قبل الحرب، وبقيت الخطوة الأخيرة، وهي حفل الرفاف والانتقال إلى عشّ الزوجية الذي يحتاج فترة قصيرة حتى يتم تأثيثه بتعاونٍ محمومٍ بين العائلتين، وحيث دُمّرت معظم بيوت أهل غزّة، فلم يعد هناك أيّ داعٍ للانتظار، فيتم نقل العروس من خيمةٍ إلى خيمة، ولست أعتقد أن ظروف الحرب التي تجعل الإنسان مضطرّاً لا يفكّر إلا بنجاته الفردية قد تسمح بحدوث علاقة حبّ أو إعجاب. ومهما حاول الأدباء والكتّاب إطلاق خيالهم، فالواقع مريرٌ، والحياة التي لا تتوفر فيها أيّ مقومات للعناية الشخصية، مثل الاستحمام، وتنظيف الأسنان، وتهذيب الشعر، لا يمكن أن تسمح بأن يحدُث أي انجذاب بين ذكر وأنثى، ما لم يتراجع الإحساس، لكي تحلّ مكانه الغريزة والشهوة.
وبعودة إلى حالات الزواج إبّان النكسة، أجمع كل من عاشوها أنّهم تعجّلوا زواج بناتهم خشيةً عليهنّ من التعرّض للاغتصاب من جنود الاحتلال الذين كانوا يداهمون البيوت بحجّة البحث عن الشباب. وفي تلك الفترة، جرى إفراغ القطاع قسرياً من الشباب، وترحيلهم بحافلاتٍ إلى الخارج ولم يبقَ في البيوت سوى الشريحة الهشّة من النساء والأطفال وكبار السنّ من الرجال، فأصبح الخوف قائماً، وإن لم يُخفِ ذلك تمسّك العقل العربي بمفهوم العذريّة وارتباطه ببكارة البنت. وبالتالي، كان التفكير السائد وقتها، وبتّ أسمعه في الوقت الحالي، أن اغتصاب المرأة يكون مرّاً، ولكن الأكثر مرارةً اغتصاب العذراء وانتهاك بكارتها.
وتأتي هذه المخاوف أمام رواياتٍ عن تعرّض نساء فلسطينيات للاغتصاب والتحرّش من جنود الاحتلال، وفيما تسرى ادّعاءاتٌ عن تعرّض نساء من الرهائن المختطفين للاغتصاب، وأمام ما يدور من اتهامات وشهادات، فإن الاغتصاب هو أحد نتائج الحرب والصراع وضرب العدو في مقتل بانتهاك الشرف والتعدّي على الحلقة الأضعف في المجتمع، والتي يجب حمايتها ووضع ألف خط أحمر تحتها، وإقصاؤها عن كل الحروب والنزاعات، وعدم تحويلها إلى أداة انتقام تؤدّي إلى كارثة اسمها زواج في الخيام، في وقتٍ لا يوجد فيه متّسع في تلك الخيام إلا للموت المُسرع أو المُتمهّل. وفي كلّ حال، هو موتٌ للأرواح قبل الأجساد، فحتى تقدّم أمّي بالعمر لم تكن تُخفي حسرتها أنها لم تمتلك سوى قلميْن من حمرة الشفاه أخفتهما بين ثيابها القليلة، حين تزوّجت وقت الحرب، ولم تكن تجرؤ على خط شفتيْها بإحداهما، وذلك إجلالاً لأرواح من رحلوا، فالجميع كان مجروح الفؤاد حسب وصفها، وحُمرة الشفاه دليل فرحٍ لا مكان له على الإطلاق.