زمن الورش الافتراضية

21 مايو 2022

(نوال العبد الله)

+ الخط -

ثمّة ظاهرة باتت، لفرط انتشارها وازديادها وتعميمها على كل المجالات، مثيرة للريبة، وتحتاج إلى رصد (وفهم) بواعث منشئيها، والمنخرطين فيها في الوقت نفسه. إذ تمتلئ صفحات العالم الأزرق بإعلانات عن ورشات عمل مموّلة من جهة ما. ولم تعد هذه الورش، كما كانت في بدايات ظهور التمويل المنظم من مؤسسات مدنية غربية، تتعلق فقط بشأن المجتمع المدني أو التمكين السياسي أو التفاوض أو تمكين المرأة (برز كله إلى ساحة التمويل بعد عام 2011 وأحداث الربيع العربي، وكان القائمون على تلك الروش غالبا أوروبيين مستشرقين، أو مختصّين في الشأن العربي أو عرباً خرّيجي معاهد أو جامعات أوروبية)، بل بتنا نرى ورشات عمل في كل شيء: كتابة قصة، كتابة رواية ، كتابة سيناريو، إخراج رسم، رقص، تربية الطفل، صوت، تعليم اللغات الأخرى، طبخ... إلخ. ولافتٌ أن غالبية الورش هذه، إن لم نقل كلها، باتت تحدُث افتراضيا عبر خاصية الزوم أو أي تطبيق آخر يمكن من خلاله اجتماع أكثر من خمسة أشخاص، واللافت أيضا أنها لم تعد تعتمد على غربيين أو قادمين من الخارج، بل بات "زيتها من زيتونها" كما يقولون، الورشة والمشاركون فيها والمنظمون لها والمشرفون عليها هم من مكان واحد، وحده التمويل يبقى غير واضح المعالم، رغم أن المشاركين في هذه الورش يدفعون لقاء حضورهم مبالغ ليست قليلة، إلا أنه يظهر أحيانا خبرٌ هنا أو هناك عن تمويل هذه المؤسسة الغربية أو تلك جهة ما من الجهات المعروفة بإقامتها المستمرّة الورشَ، والتي تتلقى أجرا من المشاركين.
لا بأس فيما لو نظرنا إلى الوجه الإيجابي لهذا الكم الهائل من الورش، فبعضها ربما يُظهر طاقات لدى بعضهم ربما كانت لتظل متوارية، وساعدتها المشاركة في ورشة ما على الظهور، خصوصا ما يتعلق بالفنون، وفنون الأداء والكتابة على وجه الخصوص، لكن من ناحية أخرى، لا يمكن إغفال أن غالبية المدرّبين في هذه الورش يحتاجون هم أنفسهم إلى تدريب قبلا، وحضورهم في عالم الفن أو الكتابة متواضع أصلا وباهت، ويحتاج إلى تزكية وتعريف. مدهشٌ أن هؤلاء باتوا يمنحون مشروعية فنية لأشخاصٍ يبحثون عن ذواتهم وسط هذا العالم المتوحش بفردانيته وعزلته، هذه الهبّة التي أعطتها لهم ظاهرة الورش جعلتهم يتعاملون مع أنفسهم كما لو أنهم الصفوة (من نافل القول إن هناك استثناءات دائما في كل قاعدة). وهي مسألة في غاية الأهمية والخطورة، ذلك أنها تساهم في زيادة أعداد متوسطي الموهبة (الميديوكير) الذين ينظرون إلى الفنون ويطلقون أحكاما قطعية بشأنها، وهو ما يذكّر ببداية هذه الورش (غير السياسية)، والتي كانت تُقام من أجل المساعدة على العلاج النفسي، حيث إن غالبية من كانوا يدرّبون فيها كانوا يحتاجون هم أنفسهم للعلاج، (أعرف أحدا شارك في ورشة علاج نفسي عبر الصوت أصبح اليوم يدرّب في ورشات مشابهة..).
قرأت، أخيرا، عن ورشةٍ مختصةٍ بتعليم اللغة النوبية عبر خاصية زوم، تخيلت مباشرة الفكرة التي دارت في ذهن مموليها، فالنوبيون من الأقليات العرقية التائهة وسط محيط كبير مختلف تماما، وتمويل ورشة لتعلم اللغة النوبية سوف يكون مهما لدافعي الضرائب الغربيين الذين يغطّون ميزانية المؤسسات المدنية المموّلة، والذين يتسامحون مع كل ما يختص بالأقليات (المضطهدة) في دول العالم الثالث، لكن دافعي ضرائب والمؤسسات التمويلية يبدو أنهم غير معنيين بملايين الأطفال المشرّدين والجائعين والمتسرّبين من التعليم في هذه الدول ذاتها، فإنشاء مدرسةٍ أو مكان لتعليم هؤلاء الأطفال أي مهنة أليس أكثر فائدة من تعليم لغةٍ لا يتحدّث بها إلا قلة، أو من تدريب على الكتابة الأدبية أو على الرقص أو أي شيء آخر، في وقتٍ بات تعلّم أي مهارة من هذه المهارات متاحا مجانا للجميع، بفضل ثورة الاتصالات والمعلومات؟
جزء رئيس من هدف هذه الورشات هو التواصل بين البشر، التواصل الجسدي وتواصل الحواسّ في محاولة للتخفيف من ثقل العزلة التي فرضها عالم ما بعد الحداثة، معظم هذه الورشات تقام "أونلاين"، أي أنها فقدت الهدف الأهم منها، ومع ذلك تستمرّ وتزداد يوما بعد يوم، حتى بات واردا جدا إطلاق اسم "زمن الورش الافتراضية" على زمننا العربي هذا.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.