روسيا ودول البلطيق .. إرث ثقيل ومستقبل مجهول
تُلقي الأزمة الأوكرانية اليوم بظلالها على دول عديدة، ولم تعد تداعياتها تقتصر على أطراف محددة فقط، ولكن من الواضح، الآن، أن دول البلطيق الثلاث، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، تبقى الأكثر قلقاً.
وأثار حفيظة موسكو، وأنذر بإشعال توتر جديد قرار ليتوانيا فرض قيود منتصف الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) على عبور البضائع الخاضعة لعقوبات الاتحاد الأوروبي إلى كالينينغراد، وهي إقليم روسي محاط بليتوانيا وبولندا (العضوين في حلف شمال الأطلسي)، إلى أن أكّد الاتحاد الأوروبي، قبل أيام، أن ليتوانيا ملزَمةٌ عبر أراضيها بالسماح بمرور البضائع الخاضعة للعقوبات باستثناء الأسلحة، من روسيا الى جيب كالينينغراد على بحر البلطيق، باستخدام سكك الحديد.
قد تبدو الأحداث التي تتكشف فصولها رويداً رويداً في أوكرانيا، وكأن العالم أمام حربٍ باردة جديدة، ترتسم معالمها الأولى في أوروبا، إلا أنها تبدو أسوأ من ذلك بكثير من منظار دول البلطيق الثلاث، الأقرب جغرافياً، فبالنسبة إليها أثارت خطوات روسيا، لا سيما العسكرية منها، تجاه أوكرانيا قلقاً كثيراً بين أوساطها، إذ يخشون أن يكونوا هدف موسكو التالي، إذ أعادت التوترات، أخيراً، إلى التداول ذكريات ماضٍ ثقيل خلال حقب لم يطوها النسيان.
وبعد أن أقدمت روسيا على ضم شبه جزيرة القرم إليها في عام 2014، توجّست الدول الثلاث؛ إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، من مواجهة المصير ذاته، بعد أن تمتّعت باستقلالها عن الاتحاد السوفييتي أكثر من ثلاثة عقود، مع عدم إغفال حقيقة وجود أقلية من السكان ناطقين بالروسية بين المكونات الشعبية لدول البلطيق، وهذا ما يجعل المنطقة نقطة ساخنة قابلة للاشتعال في أي وقت، مع استمرار رفع أعداد قوات حلف شمال الأطلسي وعتادها في هذه الدول، بهدف زيادة الضغوط على موسكو في حوض بحر البلطيق.
دول البلطيق مختلفة ثقافياً ولغوياً، وليست لديها العلاقة نفسها بالتاريخ والهوية الروسيين، كما الحال مع الدولة السوفييتية السابقة الأخرى
يخيّم التاريخ بإرثه الثقيل على تلك الدول الصغيرة، بعدد سكانها القليل، إذ إن تعدادها مجتمعة يبلغ أقل من ستة ملايين نسمة، وتتميّز بطقسها القاسي، وتاريخ يقوم على الخشية والقلق من الجار العملاق المهيمن دوماً روسيا. وتعدّ دول البلطيق مختلفة ثقافياً ولغوياً، وليست لديها العلاقة نفسها بالتاريخ والهوية الروسيين، كما الحال مع الدولة السوفييتية السابقة الأخرى، أوكرانيا، لكنها خضعت لحكم موسكو خلال القسم الأكبر من القرنين الماضيين، فقد حكمتها أولاً الإمبراطورية الروسية، ثم الاتحاد السوفييتي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلى أن نالت الاستقلال نتيجة انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. وخوفاً من عودة عقارب الساعة إلى الوراء بسيطرة موسكو، عمدت هذه الدول، منذ استقلالها، إلى ربط نفسها بالمنظومة الغربية، وانضمت إلى حلف شمال الأطلسي عام 2004، ووضعت نفسها بذلك تحت مظلة الحماية العسكرية للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.
وهناك أقليات إثنية روسية في الدول الثلاث، وهي تشكل في كل من لاتفيا وإستونيا حوالى ربع العدد الإجمالي للسكان، بينما النسبة أقل في ليتوانيا. ولم تكن العلاقة هادئة بين هذه الدول وروسيا طوال السنوات التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، ولأسباب كثيرة، منها ما هو متعلق بالأقلية الروسية في تلك الدول.
ومع أن هناك اندماجاً جيداً بين السكان في مجتمعات تلك الدول، فقد سادت التوترات عام 2007 عندما قام مئات الأشخاص من أصول روسية باحتجاجاتٍ رافضة خطط حكومة إستونيا، لنقل نصب تذكاري للحرب السوفييتية في العاصمة تالين، وأعربت إستونيا وقتها عن شكّها في أن روسيا هي التي أجّجت تلك التحرّكات، وكانت تنسق أيضاً الهجمات السيبرانية التي شلّت شبكات الحكومة.
كثّفت دول البلطيق من استعداداتها وجهوزيتها العسكرية بدعم من حلف الناتو، تحسباً لأي تدخل محتمل من القوات الروسية
كشفت هذه الأحداث مخاوف على مستويات عدة، من أبرزها أن تعيد موسكو طرح مسألة حماية الأقليات الروسية في البلطيق، كما في حالات مماثلة من مناطق الاتحاد السوفييتي السابق التي نفذت فيها روسيا عمليات عسكرية، مثل أبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا، وفي شبه جزيرة القرم، وحالياً في الشرق الأوكراني، وكذلك المخاوف أن يتهدّد السلم الأهلي بين الإستونيين، ولاحقاً لدى جيرانهم، ليتوانيا ولاتفيا، بسبب المواقف من روسيا.
وعلى الخريطة، تبدو دول البلطيق وكأنها مطوّقة روسياً من مختلف الجهات، ولا مجال أمامها سوى البحر، وقد لا يساعدها واقعها الجغرافي والديمغرافي كثيراً في مواجهة موسكو التي زادت مخاوف دول البلطيق الثلاث من أن تحاصرها القوات الروسية من جهات عدة. وتركز هذه الدول الثلاث اليوم على ما تفعله روسيا في بيلاروسيا المجاورة، وما يعنيه ذلك لأمنها، حيث يوجد آلاف الجنود الروس على الأرض في بيلاروسيا.
وخلال السنوات الأخيرة، كثّفت دول البلطيق من استعداداتها وجهوزيتها العسكرية بدعم من حلف الناتو، تحسباً لأي تدخل محتمل من القوات الروسية، حيث تجرى المناورات العسكرية بانتظام على الأراضي الليتوانية قرب الحدود.
يبقى القول، مع تصاعد التهديد الأمني في شرق أوروبا، بعد بدء روسيا ما أطلقت عليه عملية عسكرية في أوكرانيا، إن ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا تشعر بالقلق بشأن انعزالها عن أوروبا وحصارها من الروس وحلفائهم في بيلاروسيا، عبر فجوة سوالكي الخطيرة، وهي الحدود البولندية الليتوانية الضيقة (65 كيلومتراً)، والتي يُنظر إليها باعتبارها واحدةً من أكثر نقاط "الناتو" ضعفاً، حيث تقع إلى الغرب من هذه المنطقة مقاطعة كالينينغراد الروسية، والتي تعتبر قاعدة عسكرية روسية متقدّمة، ورأس حربة موسكو في خاصرة التحالف الغربي.