روح عصيّة على الكسر
كأن جمرة متّقدة سقطت على خاصرتي، وأنا بين الصحو والنوم، عندما تناهى إلى سمعي خبر استشهاد الشيخ خضر عدنان في ساعة فجر ربيعي بارد، تفطّر قلبي عليه، ورُحت أتخيّله في لحظاته الأخيرة وحيداً جائعاً منهك الجسد داخل زنزانته، يتجلّد أمام السّجان ويقاوم الحسّ بالترك والخذلان، وهو الفتى القادم من الجيل الذي ملأ الشاشات بالحجارة، وشرب من حليب الانتفاضة المجيدة، وصار لاحقاً شخصيةً وطنيةً محترمةً ثم أيقونة نضالية تعلو علوّاً لا يُعلى عليه.
استذكرتُ أسلافه أمثال عطا الزير وفؤاد حجازي ومحمد جمجوم، الذين صعدوا إلى حبال المشانق في سجن عكا قبل نحو مائة عام وهم يهتفون "الاستقلال التام أو الموت الزؤام". ترحّمت على الشيخ الشاب، وأجريت معه حديثاً افتراضياً، اتّخذت فيه وضعية التلميذ الفتى، الذي يودّ أن يقطع الشك باليقين، قعدتُ قدّامه متربّعا على حصيرته المتقادمة، وقلت له ما يهدهد الروح التي لم تنكسر، وبعثت فيه ما لا يثير لواعج الرجل، الذي أختلفُ مع مقارباته، لكنني أحترم رأيه ورؤيته، وأعتزّ بموقفه النضالي الصلب صلابة الحديد المسقي، كما قوّلته ما أرغب في أن يقوله للناس في مسألةٍ تقع على مدارات الكفاح.
وهكذا، قال التلميذ الفتى لأستاذه الشيخ: قل لي، يا سيّدي الشيخ، هل الروح التي هي من أمر ربّي، وقد أسلمتها لباريها بيديك للتوّ راضياً مرضياً، تقبل الوصف إذا كان الموصوف نفسُه واقعاً خارج حيّز المدركات الحسّية، عصياً على الفهم، لا يقع على سمع ولا يتراءى لبصر إنسان؟
أجاب الأستاذ الشيخ تلميذَه الفتى: الروح، يا بنيّ، تقبل الوصف، شأنها في ذلك شأن الطبع والخلق والذوق، تجري مجرى السلوك وتفيض من على ضفاف الخطاب، تقوم مقام التصرّف، تنوب عن التعبير، تومئ بطرفها من وراء حجاب، وتُمسك عن البيان والتبيين إلى ما يشاء الله.
أعاد التلميذ الفتى سؤاله: كأنك تقول لي، يا سيدي الشيخ، إنه إذا كان لنا أن نصف حسّ إنسان بالرهافة أو الغلظة، وطبع آخر بالليونة أو الحدّة، وخلق ثالث بالسمو أو السوقية، وذوق هذا أو ذاك بالرفعة أو الدونية، فإنك تجيز، يا سيدي، وصف الروح بالصلابة، حتى وإن تواضعت أنت تواضعاً في غير محله، وترفّعت عن وصفها، وهي لديك بالنصاب الكامل، بهذه الصفة المستحقّة لديك بكل جدارة؟
أجاب الأستاذ الشيخ تلميذه الفتى: في أصل الأصل، تفطُر الروح، يا بنيّ، على فطرة واحدةٍ، في الأبيض كما هي لدى الأسود، عند الرجل كما هي لدى المرأة، في أول الخلق إلى آخر الدهر، فطرة تقبل التشكّل على كل وجه، بنتاً لبيئتها، ربيبةً لجنسها المذكّر أو المؤنث، ووعاءً سديمياً تسقط في قعره التجارب الذاتية الأولى، ثم تتراكم فيه خلاصات التربية والتجربة وعناصر المعرفة المكتسبة.
ثم أردف الأستاذ الشيخ، شارحاً معنى الكلام: ما دمنا في مقام السؤال عن صلابة الروح فإنه يحسُن بي، أيها الفتى، تذكيرك أن الإنسان ما هو إلا خلقة ثنائية الأبعاد، تتكوّن من قلب وعقل، فؤاد ولسان، بدن وروح يتمّمان بعضهما بعضاً. لذلك، لا تكتمل صلابة أحدهما إلا بصلابة الآخر، حيث البدن ثوب الروح الظاهر للعيان، فيما الروح لباس للبدن على نحوٍ غير منظور. وعليه، فإن معدن الروح حاصل جمع رقمين لا يقبلان القسمة، أو قل نتاج مفردتين تشكّلان معاً جملة مفيدة واحدة.
قال التلميذ الفتى وقد بدا كمن يقرأ من كتاب مفتوح: إذن، صلابة الروح، وأنت سيدها يا سيدي الشيخ، أمرٌ يمكن وصفه أكثر مما يمكن جسّه، يتصل بتجليات الحضور أكثر من الحضور ذاته، وبصورة أوضح من الأصل، كما تُدرَك مُخرجاته على نحو أبين من وعي مدخلاته، يتراءى لك بعين القلب أجلى مما تراه العين المجرّدة، وتكاد أن تضع عليه يدك ولا تلمسه، وتتمثله في دواخلك أعمق مما تقدر على رسمه.
ثم فتح التلميذ الفتى عينيه على اتّساعهما مضيفاً: صلابة الروح، يا سيدي الشيخ، بلاغ صامت، يتلوه السؤال المثقف والجواب المماثل. إنها، يا سيدي الشيخ، تُناظر فجوة من نور تشعّ من بين العينين، أو ألقاً في جبين، أو قل، يا سيدي، إنها مثل لمسة يد دافئة تتدفق من راحة الكفّ. إنها الكلام المهذب، النظافة الداخلية، الاستقامة والصدق وقول الحق والاعتدال والموضوعية، وإن صلابة الروح، يا سيدي، هي مثل الماء الذي حين تستعصي عليك اللغة في تشخيصه، لا تجد أبلغ من القول إن الماء هو الماء.