رواية الرّقّة.. المحتلة

10 نوفمبر 2017
+ الخط -
لمحدلةِ التمويت والتهديم، الجارية في سورية منذ سبع سنوات، وجوهٌ كثيرة. نتابع ما يتيسّر بشأنها في الإعلام، المتعدّد والمتنوّع والمتقلب، المعارض والموالي والتشبيحي، النظيف والمتّسخ، وفيه كله الانحيازات المعلومة وغير المعلومة، وهذه تلوّن القناعات والآراء والتحليلات التي تفيض عن الحاجة. ... هذا عن الفضائيات والصحف والمواقع. ماذا عن الأدب، عن الرواية مثلا؟ كيف اشتبكت مع ما جرت تسميته زلزالاً سوريّاً، وتغريبةً سوريةً، وثورةً سوريةً مغدورة، وافتُتحت هذه السطور بتسميته محدلةً؟ يتسع المشهد في البلد العربي المنتهَك، المحتل، المتآمَر على شعبه، لتسمياتٍ أخرى، ففي الجغرافيا السورية الثورة والإرهاب، والبطولة والزعرنة، والبهيّ والظلامي. تُرى، أيّ مخيلةٍ في وسعها أن تكتب هذا كله، في ملحمةٍ روائيةٍ؟ قال دارسون إن النصوص العالية في سمْتها الإبداعي والفني عن الأحداث الكبرى تنكتبُ، غالبا، بعد سنواتٍ، أو عقودٍ، على اكتمال هذه الأحداث ونهاياتها. إذن، الوقت مبكّر لكتابة العمل الأدبي المشتهى، والذي سيكون السوريون كلهم فيه، شهداء ونازحون ولاجئون وثوارٌ وموالون وشبيحةٌ ومعارضون وإرهابيون وفقراء وأغنياء، في طورٍ زمني طويل، يحضر فيه التوحش الذي شاهدنا، وهتافاتُ البسطاء لإسقاط النظام، وكذا كثيرٌ مما نعرف، وما لا نعرف، مما أبدعه سوريون ثائرون عن حق، ومما سقط فيه غيرُهم من مباذل، في ضفاف النظام والإرهاب، وفي ضفاف أخرى. 

بانتظار أن تنتهي المحنة السورية، بتحرّر الشعب من نظام الطغيان، وبوصوله إلى شطآن أمنٍ وأمان، وبانتظار نصوصٍ كبرى، سرديةٍ وشعرية، عن هذه المحنة وتفاصيلها، ثمّة شيءٌ من التراكم الطيب لرواياتٍ يصدرها، منذ خمس سنوات، صنّاع أدبٍ سوريون مُجيدون، وفي الوسع أن نعد نحو عشرين عملا، غيرُ قليلٍ منها نابهٌ وحاذقٌ، في تعبيراته عن تنويعاتٍ من المأساة الماثلة. وصار مطلوبا من أهل الدرس الأدبي والنقدي أن يُنجزوا مطالعاتٍ عميقةً في هذا المنتوج، للوقوع على مطارح الأناقة الفنية والإبداعية فيه، وأيضا مطارح الثرثرة والاستعجال والميلودراما البائسة.
واحدٌ من مقاطع المحدلة السورية المتواصلة ما عانته الرّقّة في أربعة أعوام من احتلالها الداعشي، الذي تحرّرت منه قبل أيام، فصارت المدينة في قبضة مليشيا كردية. يقصّر الإعلام، إلا في حدودٍ دنيا جدا، في التعريف جيدا بمن بقوا من أهل الرّقّة وسكانها فيها، كيف كانوا يعيشون تحت سلطة التنظيم الإرهابي. نريد أن نسمعهم يتكلمون، شبعنا تحليلاتٍ وآراء واصطفافاتٍ، نودّ أن نرى الناس هم من يقولون ما يقولون عن تدبيرهم شؤونهم، لمّا كانوا تحت وطأة خوفٍ ثقيل، عن فرض اللحى ومنع الأفراح مثلا. ربما حاورت فضائياتٌ بعضَهم عن هذا وغيره، لكن ما شوهد لا يروي غليلا. هنا أزعم، بشيءٍ من التحوّط، إن الرواية السورية، تفوّقت، فثمّة نصوصٌ منها انكتبت عن الرّقّة، في ذلك المقطع الداعشي ومقدماته، تكلّم أبطالها عن رعبٍ مهولٍ كانوا فيه، عن فظاعاتٍ كابدوها. لعل رواية "نزوح مريم" (دار التنوير، بيروت، 2016)، للأستاذ الجامعي محمود حسن الجاسم، الأهمّ في هذا، في الموضوع، وليس بالضرورة فنياً وإبداعاً.
يصف أحد شخصيات الرواية حال الرّقّة تحت حكم "داعش" احتلالا (هل ما جرى أخيرا تحرير؟). بضمير المخاطَب إلى ابنتها الطفلة المريضة، تكتب السورية المسيحية، سارة، المتزوجة من المسلم الحانق على النظام، المهندس هشام، الرواية كلها، منذ أحبّت زوجها الذي عارض أهلُها اقترانَها به، وقد أقامت في الرّقة قادمةً من محردة في ريف حماة، مدرّسةً فيها. تمرّ الرواية على الاحتجاجات الأولى ضد النظام، وانحياز أخ زوجها البعثي للسلطة، غير أنه تاليا يختفي، أما الزوج فتحتجزه "داعش"، وتنكّل به. تصوّر الرواية مشاهد خطفه، ومشاهد حزنٍ وأسىً وتفجّعٍ مهولة، ورحلةٍ من الأحزان، والنزوح واللجوء والهرب، ما يجعل هذه الرواية لا تتعلق فقط بأسرةٍ مكلومةٍ في الرّقة الأسيرة، وإنما بسورية كلها ربما. وفي هذا كلامٌ طويل، غير أن الإيجاز المراد هنا إن "نزوح مريم" روايةٌ غلبت كل الإعلام بشأن الرّقة قبل أن تتحرّر من احتلال "داعش"، ومثل هذا هو المنتظر من رواياتٍ لم تنكتب بعد، عندما تتحرّر سورية كلها من أكثر من احتلال.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.