رواسخ المجتمع ورواسب النخب
"وشدّدت نقابة المهن الموسيقية على أن رواسخ المجتمع التي كانت العامل الأول في بناء مجتمع قيمي صالح، وتؤكد النقابة على ثقتها في قيادات مصر وأجهزتها التي ثبت قدرتها على إنجاح مرحلة حاسمة في تاريخ الوطن".
ما سبق لو كتبه تلميذ بمدرسة إعدادية في امتحان مادة التعبير لحصل على صفر في التقييم، إذ لا أسلوب ولا مضمون، ولا فكرة. وهذا ما يفعله الاستبداد دائمًا، إذ عندما تغيب الحرية تحضر الركاكة والضحالة، وحين ينسحب المنطق فإنه يخلي مكانه للهلوسة والشعوذة، باسم الوطن.
فنان استخدم حقه الطبيعي في التعبير عن وجهة نظر سياسية، بأسلوبٍ غاية في الركاكة، فانطلقت المدفعية الثقيلة من النقابات الممثلة لمن يعتبرون أنفسهم قوة مصر الناعمة، دفاعًا عن "رواسخ المجتمع" وهو مصطلح لا بد أنه سيخلد في أرشيف النكتة السياسية المصرية، إلى جانب سابقاته من مصطلحات فارغة وعبارات رنانة وطنانة، مثل "شرف المهنة" و"الإساءة لسمعة مصر" وغيرها مما ألف فيها الكتاب السياسيون الساخرون كتبًا تتوارثها الأجيال، من عبد الله النديم وحتى صلاح عيسى.
لا تشغل بالك كثيرًا بالتفتيش وراء الجهة التي يستند عليها المغني إيمان البحر درويش في انتقاده اللاذع للأداء الكارثي لنظام عبد الفتاح السيسي في ملف سد النهضة، ولا تتوقف أكثر أمام مفرداته وحركاته وإيماءاته النقدية، أو الأصوات الصادرة منه وهو يتقمّص شخصية المصلح السياسي العميق.
ما يستحقّ التوقف أمامه حقًا هو انتفاضة البيانات الساخنة التي اندلعت من نقاباتٍ كنّا نظن أن وظيفتها الأساسية الدفاع عن حريات وحقوق المنتسبين إليها ضد تغوّل السلطات وبطش الرأسمالية الجاهلة المتربصة بالفن والإبداع، فإذ بنا نكتشف أنها صارت مثلها مثل فرق الأمن المركزي وقوات فضّ التظاهرات التي تقتحم وتضرب بلا هوادة كل من يضايق السلطة بكلمة نقد، أو همسة رأي، أو زفرة ألم، حيث تتحوّل فجأة إلى أجهزة أمنية، تهتم بالضبط والربط والسيطرة والتحكّم في كل ما يصدر عن أعضائها، بدلًا من الانشغال بما هو فني وإبداعي وثقافي.
في هذه الحالة، تنتفي الفوارق بين لواء على رأس جهاز الأمن الوطني والمطرب هاني شاكر، الجالس في مقعد نقيب الموسيقيين، إذ لا تختلف العبارات المتضمّنة في بيان النقابة ضد العضو الرجيم الكافر بالوطن ومصالحه العليا، المطرب إيمان البحر درويش، عن العبارات التي تقرأها في أي بيانٍ صادر عن وزارة الداخلية، من حيث الطنين الأجوف بمصالح الوطن العليا، ورواسخ المجتمع السفلى، والقيم والتقاليد والأعراف والأخلاق، التي سيتم الضرب بيد من حديد على كل من يقترب منها أو يخدش عفافها بكلمة.
في ذلك، أصدر ما يسمّى الاتحاد العام للنقابات الفنية (السينمائية والتمثيلية والموسيقية)، بيانا ناريًا ضد إيمان البحر درويش، دان فيه جريمة هذا الفنان "في وقتٍ تتكاتف فيه كل القوى الناعمة وتلتفّ حول الإنجازات غير المسبوقة للدولة المصرية الناهضة". يؤكد البيان الفكرة التي ترسّخت بأنه لم يعد ثمّة فرق بين نقيب نقابة مهنية ونقيب شرطة، بل هبط نقيب النقابة برتبته ومكانته إلى مستوى "رقيب بمصلحة الأمن العام"، إذ يقول البيان: وتؤكد جموع فناني مصر أن ملف الأمن القومي خط أحمر، ولا يجب لغير الموكل إليهم من المختصين النشر أو العبث بمفاهيمه وبقرارات الدولة المصرية الوطنية بشأنه". وتابع: "كما تؤكد جموع فناني مصر أنها ماضية قدما في مساندة كافة القرارات والأهداف التنموية والمشروعات القومية التي تخطو بها الدولة المصرية لغدٍ أفضل لكل المصريين، تحيا مصر والله الموفق".
كل هذا السخام المعبأ في بيانات نقاباتٍ كانت، في زمنٍ مضى، مناراتٍ للدفاع عن حرية أعضائها وحرية المجتمع بأسره في التعبير عن رأيه والمطالبة بحقوقه، هو النتاج الطبيعي لتلك اللحظة التعيسة في مثل هذا اليوم 26 يوليو/ تموز 2013 التي قرّر فيها الجميع أن يفقأوا أعينهم ويستأصلوا ضمائرهم، وتفويض الجلادين بالتصرّف فيهم كما يتصرّف التاجر في قطيعٍ من الأغنام، يعلفه بما يشاء، ويقتاد من يقع عليه الاختيار للذبح وقتما يشاء.
بهذا التفويض المشؤوم، ارتضت ما تسمّي نفسها النخب، في السياسة والفن والثقافة، أن تضع رقابها ورقاب المجتمع كله، تحت سكّين الاستبداد، حتى باتت لا تتخيّل حياتها من دون جلادٍ يهينها ويقمعها ويسحق آدميتها باسم رواسخ الوطن ومصالحه العليا، تلك المصالح التي كان أول من يهينها ويفرّط فيها.