رقم صعب في مصر
كاتب وباحث حقوقي مصري، مدير ومؤسس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، و له مؤلفات حول الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي.
تنبأت الباحثة الألمانية، سيفسكايا بريشنماشر، في كتاب لها صدر قبل أربع سنوات، بأنه على الرغم من أن دائرة محدودة من المنظمات الحقوقية المصرية تتحمل العبء الأقصى للقمع الأمني منذ عام 2013، إلا أن هذه المنظمات بالذات دون غيرها في وضع أفضل للصمود في مواجهة تواصل القمع في مصر. صدر الكتاب بالإنكليزية عن مؤسسة كارنيغي في واشنطن، وهو يدرس بشكل مقارن ردود فعل المجتمع المدني على القمع العنيف في ثلاثة من أبرز النظم التسلطية في العالم: روسيا ومصر وإثيوبيا. لم تكن سيفسكايا تضرب في الرمل، ولكنها أسّست تنبؤها على دراسة ملموسة لواقع منظمات حقوق الإنسان، وعلى دراستها أيضاً أساليب النظم التسلطية في العالم في احتواء المعارضة السياسية والمنظمات الحقوقية. لم تتح لي الفرصة لمقابلتها في أثناء عملها على هذا البحث المهم، لكنني طالعته على الإنترنت، قبل أن ألتقي بها في مكتبها في العام التالي، مهنئاً بصدور الكتاب، حيث أهدتني نسخةً مطبوعة منه بتوقيعها.
تمرّ خلال شهر إبريل/ نيسان الحالي 36 عاماً على تأسيس أول منظمة حقوقية مصرية معاصرة. منذ ذلك الوقت، واجهت الحركة الحقوقية تحدّيات هائلة، لم تبدأ برفض الاعتراف القانوني بمنظماتها (أول أعتراف بقانونية منظمة حقوقية جرى بعد 17 عاما من تأسيسها)، ولم تنتهِ بالقبض على بعض قياداتها وتعريضهم للتعذيب. لم تنحصر مشكلاتها بالحكومة، فالمجتمع ذاته، السياسي وغير السياسي، كان أحياناً يقف أمامها مشدوهاً، عاجزاً عن فهم هذا الكائن المجتمعي البازغ، وعن تصنيفه السهل في أحد مربعات التصنيف التقليدية. في أحيان أخرى، صدرت ردود فعل استنكارية. في أحيان ثالثة، وقف المجتمع على أطراف أصابعه مبهوراً في المرّات القليلة التي حققت فيها الحركة الحقوقية انتصاراتٍ غير متوقعة، يفترض ألا تسمح بها علاقات القوى السائدة.
القمع، وبالقيود التي تعرّضت لها الحركة الحقوقية المصرية، على مدى ربع القرن الأول من عمرها، لا يمكن مقارنته بقسوة ما تعرّضت له في السنوات العشر منذ انتفاضة يناير 2011
منذ سنواتها الأولى، اصطدمت الحركة الحقوقية بتابوهات راسخة. لم تكن هي أول من اصطدم بأي تابو منها، ولكنها كانت أول من يصطدم بكل هذه التابوهات مجتمعة معاً، وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من أنها كانت ما زالت تحبو في سنواتها الأولى. بعد صراع داخلي محدود، نبذت الحركة الحقوقية ثنائية التصنيف التقليدية، إما مع الحكومة أو المعارضة، واتخذت موقفاً نقدياً من الممارسات المنافية لحقوق الإنسان التي تصدر عن كليهما. كذلك انتقدت علناً كل تقليد مجتمعي أو تفسير ثقافي ديني يتعارض مع المبادئ العالمية لحقوق الإنسان، ورفضت علناً تبريرات مؤسسة الأزهر لاعتداءات على حرية الفكر والرأي والاعتقاد والإبداع الأدبي والفني. كذلك قبلت علناً منحاً مالية من مصادر غير مصرية، مثلها في ذلك كيانات ثقافية وشركات إنتاج سينمائي مصرية وغيرها. وانتقدت انتهاكات الحكومة المصرية لحقوق الإنسان في اجتماعات دولية علنية خارج مصر، وكشفت بنفسها عن أنها تفعل ذلك أيضاً في اجتماعاتٍ في مقارّ سفارات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالقاهرة، وفقاً لما تبيحه الآليات الدولية التي وافقت عليها الحكومة المصرية منذ سنوات بعيدة. كان ذلك أكبر من أن يهضمه كثيرون في مصر من داخل دوائر الحكم وخارجها، إما لحسابات أمنية، أو تصوّرات ذات طابع ديني، أو بقايا تصوّرات ذات طابع قومي زائف.
منذ سنواتها الأولى، دخلت هذه الحركة في صراعاتٍ فرضت عليها مع ديناصورات وقوى تتمتع بقوة سياسية أو معنوية راسخة أو قمعية هائلة. فوفقاً للمبادئ العالمية لحقوق الإنسان، فإن الحقوقيين ملزمون بالوقوف ضد انتهاكات حقوق الإنسان، أياً كان مصدرها، وليس فقط الانتهاكات التي ترتكبها الحكومة. التزام هذا المبدأ وضعها مبكراً في مواجهةٍ بدأت بالحكومة، لكنها امتدت لتشمل أيضاً مؤسسة الأزهر، وأطرافاً قوية في المعارضة السياسية السلمية والمسلحة. مع ذلك، لم تتوقف أغلبية هذه الأطراف طوال الوقت عن محاولة كسب ود الحركة الحقوقية، أو محاولة تجنيدها لمصلحتها، أو احتوائها، أو السيطرة عليها من خلال التجنيد والاختراق الأمني (الحكومة)، أو الترشّح لمجالس إداراتها (المعارضة). أول تهديد لي بالقتل تلقيته، لم يكن من جهاز أمني، بل من جماعة مسلحة، كنت أدافع عن ضرورة تمتع أنصارها المسجونين بالحماية من التعذيب، وبضمان لهم محاكمة عادلة. بينما كانت تلك الجماعة تتوقع التعامل مع أنصارها كسجناء رأي، وتستهجن دفاع الحقوقيين عن ضحاياها من الأقباط والمثقفين والسياسيين وغيرهم من المصريين.
بعد ثلاث سنوات من تأسيس أول منظمة حقوقية مصرية، وقع الاعتداء للمرة الأولى على بعض قيادات الحركة الحقوقية، بالقبض عليهم والتعذيب. خلال الأعوام الثلاثة وثلاثين التالية لم تتوقف هذه الجرائم، بل وُجِّهَت إلى المنظمات الحقوقية أبشع الاتهامات، من خلال القضاء غير المستقل والإعلام البوليسي الموجّه. ولكن لم تثبت أي تهمة على أي منظمة حقوقية، من الفساد إلى العمالة للشيوعية ثم للغرب، ثم للإخوان المسلمين وقطر وتركيا، وصولاً إلى إدراج حقوقيين على قوائم الإرهاب.
بتسلّم السيسي الحكم، جرى توسّع لا سقف له في لجوء الأجهزة الأمنية إلى أساليب العصابات الإجرامية
لكن القمع وبالقيود التي تعرّضت لها الحركة الحقوقية المصرية، على مدى ربع القرن الأول من عمرها، لا يمكن مقارنته بقسوة ما تعرّضت له في السنوات العشر منذ انتفاضة يناير 2011. لم يتعرّض مقر أي حزب سياسي للاقتحام خلال الانتفاضة حتى انقلاب 3 يوليو (2013)، بينما اقتحمت الشرطة العسكرية مقر إحدى المنظمات الحقوقية بعد أسبوع من انطلاق الانتفاضة، بالتوازي مع ما عرفت باسم "موقعة الجمل" في ميدان التحرير في القاهرة، حيث قُبض على مديرها وعدد من الحقوقيين، أودعوا إحدى الثكنات العسكرية. كان هذا أول إعلان رسمي أن المخابرات العسكرية قد تسلمت زمام مكافحة النشاط الحقوقي في مصر. قبل أن ينتهي العام الأول على الانتفاضة، اقتحمت، لأول مرة، قوة عسكرية مسلحة، في ديسمبر/ كانون الأول 2011، مقارّ منظمات حقوقية مصرية ودولية عديدة، وصادرت بعض محتوياتها. وأحالت العاملين فيها على تحقيقات قضائية على مدار عامين، في ما عُرف إعلامياً بقضية التمويل الأجنبي. خلال هذين العامين، لم تخفت حدّة الهجوم الأمني الإعلامي على الحقوقيين، باعتبارهم خونة وعملاء يُدفع لهم بالدولار، وذلك بتواطؤ أكبر حزب سياسي حينذاك ومساهمة آخرين.
بتسلُّم عبد الفتاح السيسي الحكم، جرى توسّع لا سقف له في لجوء الأجهزة الأمنية إلى أساليب العصابات الإجرامية. لم يعد التعامل مع المنظمات الحقوقية ينحصر بالقبض والإخفاء والتعذيب وتلفيق الاتهامات، بل انتقل أول مرة إلى ممارسة ألوان متنوعة من الاعتداء والابتزاز الإجرامي المكشوف، كالاعتداء العنيف على حقوقي في الطريق العام بوحشيةٍ يمكن أن تفضي إلى الموت، أو تهشيم سيارة حقوقي، أو خطف نجل حقوقية وإخفائه وتعذيبه، أو القبض على زوجة حقوقي وتلفيق اتهامات لها، أو الاهتمام باستطلاع احتمالات إصابة حقوقيين بكورونا من أجل التدخل الذي يمكن توقع هدفه، أو التهديد بالقتل والتحريض علناً على القتل وحماية المحرّضين من الملاحقة القضائية، بل مكافأتهم رسمياً.
هناك أطراف مصرية أخرى غير حقوقية، تتسم بكفاحية عالية، ودفعت ثمناً باهظاً أيضاً، وربما أكثر فداحة
"أعتبر نفسي محظوظاً"، هكذا قلت في كلمتي قبل خمس سنوات أمام مجلس حقوق الإنسان في المقر الأوروبي للأمم المتحدة في جنيف. وكنت قد عوقبت قضائياً بمنعي ومنع مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان وآخرين من التصرّف في الأموال، بناءً على اتهامات ملفقة. قبل ذلك، كنت قد تلقيت تهديداً بالقتل لم آخذه على محمل الجد، لولا أن حذّرني الدبلوماسيون الأجانب ومسؤولون في الأمم المتحدة من أنه تهديد جدّي، وأنني يجب أن أغادر مصر فوراً. لم يتغير شعوري، بعدما تلقيت أقسى عقوبة "قضائية" صدرت ضد حقوقي مصري بالسجن ثلاثة أعوام ثم 15 عاماً بحكمين قضائيين متواليين خلال 11 شهراً فقط، عقاباً على مواقفي المعلنة بخصوص مأساة حقوق الإنسان في مصر، ومشاركتي في اجتماعات دولية بشأنها. بعد أيام من صدور الحكم القضائي الثاني، شاركت في عدة اجتماعات مع مسؤولين في الأمم المتحدة لمناقشة مغزى هذا التطور النوعي الجديد، ثم دُعيت إلى المشاركة في اجتماع مع ممثلي عدة دول غربية عن تقييم حقوق الإنسان في مصر. بعد أن عرضت تقييمي في بداية الاجتماع، تلقيت سؤالاً عمّا إذا كنت قد تلقيت إيماءة مباشرة أو غير مباشرة من الحكومة المصرية أن ذلك الحكم القضائي سيجري التراجع عنه بطريقة أو بأخرى. أجبت بأن ذلك لم يحدث، ولا أتوقع حدوثه لاحقاً. وأضفت أن هذا الحكم لم يصدر بشكل اعتباطي، أو غير محسوب، خصوصاً أنه الحكم القضائي الثاني ضدي خلال 11 شهراً. من قراءتي ما بين سطور الحكم القضائي، أجده يستهدف، من ناحية، تكثيف إرهاب الحقوقيين المقيمين في مصر، فهؤلاء إذا تعرّضوا لحكم قضائي مماثل سيكون قابلاً للتنفيذ الفوري. من ناحية أخرى، يستهدف ذلك الحكم القضائي اختبار رد فعل المجتمع الدولي إزاء عقوبةٍ تنطوي على تصعيد غير مسبوق في التعامل مع الحقوقيين المصريين. إذا لم يتخذ رد فعل مناسب إزاء جسامة تدهور حقوق الإنسان في مصر، فإن السيسي سيعتبر ذلك بمثابة ضوء أخضر لتصعيد هجمته على الحقوقيين في الداخل. لم تتوقف مشاورات مجموعة الدول الحاضرة ذلك الاجتماع، لكن مشاوراتها توسّعت تدريجاً لتضم دولاً أخرى، وصولاً إلى أميركا بعد انتخاب جو بايدن رئيساً، إلى أن بلغ عددها 31 دولة أصدرت الإعلان المشترك الشهر الماضي (مارس/ آذار) أمام مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
على الرغم من كل ما تتعرّض له من ضغوط عنيفة، وملاحقات وتهديدات، لم تتوقف الحركة الحقوقية يوماً واحداً عن ممارسة دورها من داخل مصر وخارجها، تماماً كما كانت تفعل قبل أن يضطر قسم منها إلى الانتقال إلى خارج مصر. من يطالع تقرير الخارجية الأميركية السنوي عن حقوق الإنسان في مصر، الصادر في شهر إبريل/ نيسان الحالي في واشنطن، سيلاحظ أن أغلبية مصادر المعلومات التي يستند إليها التقرير في نقده الحاد، هي من منظمات حقوقية مصرية. الكفاحية لا تكفي وحدها لتفسير هذا الصمود خلف ظهر الضحايا من أجل ضمان إيصال صوتهم إلى كل الأطراف التي يمكن أن تؤثر في القرار بشأن حقوق الإنسان في مصر، فهناك أطراف مصرية أخرى غير حقوقية، تتسم بكفاحية عالية، ودفعت ثمناً باهظاً أيضاً، وربما أكثر فداحة. تتسم المنظمات الحقوقية المستقلة التي كانت تقصدها سيفسكايا بنبوءتها بأنه يجمع بينها إطار فلسفي مرجعي، يوحد رؤيتها إلى مصر والعالم، وإطار تنسيقي مرن وغير هرمي صمد، على الرغم من انسحابات منه، لأكثر من 15 عاماً يجمع بين المنظمات الحقوقية المستقلة داخل مصر وخارجها. يعزّز من فعالية هذه المجموعة انتماؤها إلى حركة عالمية ذات طابع أخلاقي، تتشارك الإطار الفلسفي ذاته. وقد تفسّر هذه السمات أيضاً، لماذا كانت الحركة الحقوقية المصرية هي التجمّع الوحيد ذا الطبيعة العلمانية الذي أدان مشروع انقلاب 3 يوليو ورفضه قبل إعلانه رسمياً.
كاتب وباحث حقوقي مصري، مدير ومؤسس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، و له مؤلفات حول الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي.