رفيقة شفيق الغبرا

10 سبتمبر 2021
+ الخط -

عنوان المقالة غير موفّق، ليس فقط لإيحاءاتٍ في غير محلّها قد تُشيعها صفة الرفيقة، فيما السطور التالية عن زوجة الراحل قبل أيام، شفيق الغبرا، وهي بالضرورة رفيقة حياته أربعين عاما، وإنما أيضا لأن قصْر التعريف بالسيدة تغريد القدسي الغبرا بأنها زوجة صديقنا فعلٌ بائس، وغير جائزٍ أبدا، فهي الأستاذة الجامعية والباحثة والناشطة والكاتبة، بل وصاحبة تجربةٍ شخصيةٍ ملهمةٍ للنساء العربيات، لتوفّر "سيرتها الذاتية" على أسباب التميّز، وقد حضرت فيها روحٌ فدائيةٌ وكفاحية، وعلى أسباب النجاح في زواجٍ سعيد، وفي حياةٍ مهنيةٍ في الدراسة والتعليم الجامعي مقدّرة، وفي أمومةٍ لها تفاصيلها الحارّة. ولمّا كان من مقاصد هذه المقالة التأشير إلى قيمةٍ متحققةٍ لكتابٍ أصدرته الكاتبة أخيرا، (لا أرى عنوانَه موفّقا، أيضا!) "عندما يكون امتلاك العقل عبئا" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021)، فإن الأوضح فيه تشديد صاحبته على ذاتِها، امرأةً مستقلةً بشخصها وقرارها. إنها تلحّ على صفتها هذه في مواضع غير قليلةٍ في الكتاب الذي انكتب "لمعشر النساء .."، على ما تفيد مقدّمته التي جيء فيها على محاولة الساردة جُهدَها أن تترك زوجَها بعيدا عما تروي "لتبقى هذه الرواية روايتي دون تدخلٍ منه، مقصودا كان أو لا". وعلى ما تذكُر تاليا "إحساسي بالاستقلالية كان عميقا. أنا تغريد، ولا يمكن إلا أن أكون كذلك وبوضوح. أنا أرفض أن أكون حسب قرار فلان أو علان". ..

سببٌ قويٌّ كهذا، ومقنعٌ من قبلُ ومن بعد، يجعل العنوان أعلاه غير مناسب. وليس التظارُف ما يدفع شخصا يعمل في الصحافة إلى هذا القول بشأن مقالةٍ له، وإنما هو تبرير الأمر بأن وفاة الأستاذ الجامعي والأكاديمي، والمثقف الفلسطيني الكويتي، شفيق الغبرا، أخيرا، هي مناسبة الانتباهة هذه إلى الكتاب الرائق، وكذا التأشير إلى بعض حضورٍ لصديقنا في سطور كتاب زوجته، المدعوّ هنا إلى أن تقرَأه القارئات (والقرّاء بداهة) بعيدا عن صفة تغريد القدسي هذه، فالنص، بالإضافة إلى أنه يشتمل على مقطعٍ من تغريبة شتاتٍ فلسطينيٍّ في الأردن والكويت وأميركا، يحفل بالغزير مما يبعث على الإعجاب بتجربة سيدةٍ فلسطينيةٍ كويتيةٍ حاربت ظروفا صعبة، وقاومت مواضعاتٍ اجتماعيةً ثقيلة، وانتسبت إلى أفقٍ فكريٍّ وثقافيٍّ، تقدّمي وطني. وتمكّنت، بكفاءةٍ، من أن تُحرز نجاحا ظاهرا، زوجةً وأمّا وعاملةً وطالبة في الوقت نفسه، في لبنان والكويت وأميركا، وأثبتت أن في وسع أي امرأةٍ لديها الإرادة الحقيقية، وثقتُها المؤكدة بنفسها، أن تُنجز، وأن تتحدّى. وقد كتبت تغريد إن رحلتها الأكاديمية لم تكن من دون مواجع وصفعاتٍ إدارية، "بعضُها بسبب أني امرأةٌ تعمل في أجواء ذكوريةٍ لا تنظر لإنجاز المرأة كما الرجل، والبعض الآخر لتفشّي أنواعٍ من الفساد الإداري والأكاديمي بين جموع الرجال أكثر مما هو بين جموع النساء".

هناك، في مكتبة جامعة الكويت، صديقةٌ للطالبة في السنة الثانية قسم اللغة الإنكليزية، تغريد القدسي، تعرّفها على "شاب وسيم"، يزور الجامعة في أثناء إجازةٍ له قادما من عمله مقاتلا فلسطينيا في لبنان، اسمُه جهاد عواد. تاليا، في دعوته لها إلى غداء في مطعم، يكتشف نسيانَه حمل نقود، وهي كانت قد تركت حاجياتها عند زميلةٍ لها في المكتبة، فيترك "مضيفُها" رخصة قيادته السيارة عند مسؤول المطعم ضمانا لعودته ليدفع، فعرفت اسما آخر على الرخصة، شفيق الغبرا. ألحّ على خطوبةٍ بعد شهرين، وهو الذي "يريد الانتهاء من التفاصيل والانتقال لموضوع آخر، عكس طبيعتي الحذرة جدا والمتروّية وخاصة بالأمور الجوهرية". وبعد الزواج، تبدأ رحلة الأسرة من لبنان، أربع سنوات معا هناك، والتفاصيل هنا شديدة الأهمية، منها أن الزوجة تقيم في بيروت، فيما شفيق يقاتل في الجنوب، وتطلب منه البدء بالتوفير لشراء غسّالة ملابس أوتوماتيكية، ثم جلاية صحون أوتوماتيكية، غير أنه "رفض واعتبر ذلك تطلّعا برجوازيا من طرفي، وطلب مني الكفّ عن النقاش".

تروي تغريد أنها وشفيق (أو جهاد؟)، في المقطع اللبناني من عيشِهما، انطلقا يوما إلى شاطئ البحر، بعد تجهيز التبولة والمعجنات وصفيحة اللحم، غير أنه لمّا سمع في نشرة الأخبار عن هجوم إسرائيلي متوقّع على الجنوب "أوصلني إلى البيت وعاد للجنوب ليكون مع المقاتلين الآخرين، وأنا التي لا أعرف إن كنت سأراه ثانيةً أم لا". ويا لبراءتها ومبدئيتها المتناهيتين، على ما تقول، فقد كتبا عقدا فيما بينهما بأن الغياب الدائم لن يكون السمة الرئيسية لحياتهما بعد عشر سنوات من زواجهما. وفي أربعين عاما في سيرتيهما المتقاطعتين، حضر شفيق وغاب في محطّات عمل ودراسة في الكويت وأميركا، والكتاب يطوف على أربعة عقود فيها.. وها هو يغادر إلى دار البقاء، ولا أظنّه سيغيب يوما عن خواطر أصحابه وقرّائه وتلاميذه الكثيرين.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.