رعد حازم .. معنى المقاومة

18 ابريل 2022
+ الخط -

لم يكن مفاجئاً للمؤمنين بحقّ الشعوب بالعيش في أوطانها بكرامة، وبقداسةِ حقها في مقاومة الاحتلال بكل السبل، ما قام به الشاب الفلسطيني، رعد حازم، قبل أيام في تل أبيب. لكنّ الجسارة والإيمان العميقين اللذين تحلّى بهما رعد فاجأتا كثيرين من دعاة التطبيع قبل قادة الاحتلال، فهؤلاء كانوا يظنون أنّ إسرائيل أقوى من أن تُخترق وأعظم من أن يُفتك بجنودها وأنظمتها الأمنية والعسكرية. جاءت رصاصات ابن العشرين ربيعاً لتقتل وهم الأمن الزائف الذي بناه الصهاينة يوماً بعد يوم، ولتقضي على مسيرة التطبيع القذرة التي هرول في طريقها حكامٌ عربٌ فاقدون كل شرعية وطنية، ولا يمثلون شعوبهم ولا يشرّفونها أصلاً.
يتمثّل الدرس الأكبر من هذه العملية في العناد على الحق والإصرار على المقاومة، فهذا الشاب لم يعش مرحلة النكبة ولا النكسة ولا حتى معارك المقاومة الفلسطينية المشرّفة ولا الانتفاضات الفلسطينية المجيدة، إنّه من مواليد زمن اتفاق أوسلو الذي أضاع الحقوق وحرف بوصلة النضال الوطني. وهنا بالذات الجوهر واللبّ فيما قام به، إنّه نهجٌ يحمله أبناء الأجيال المتعاقبة وكأنّهم يرضعونه مع حليب أمّهاتهم، ومن قال إنّ الشرف والنخوة والوطنيّة لا تورثُ مع الجينات كالسحنة ولون الشعر والعيون، ولا تُكتسب بالفطرة كالدين واللغة!

لن يهنأ أبناءُ المستوطنين ما دام أبناءُ فلسطين محرومين من أرضهم وحقوقهم

ينافح بعضُهم عن المدنيين وحقّهم بالعيش بأمان، لكنّ أصواتهم لا تُسمع إطلاقاً عندما يعاني أهلُ فلسطين الحقيقيون في المنافي والشتات، ولا تُرصدُ لهؤلاء حركة عندما يقضي أهل فلسطين في الضفة الغربية والداخل نصف أعمارهم على الحواجز والبوابات، ولا ينبسُ هؤلاء ببنت شفة عندما يُمضي الفلسطينيون زهرة شبابهم في الحجز الإداري والمعتقلات الصهيونية! أليس من حقّ هؤلاء جميعاً العيش بشكل طبيعي على أرضهم وبين أهلهم وخلّانهم؟ يعتقدُ هؤلاء أنّ الحياة أقصر من إضاعتها في النضال من أجل قضايا مثالية، وجُلّ همهم الاستمتاع بملذّات الحياة البسيطة، حتى ولو تحت ضيم المحتل بثوبٍ من العار والذلّ، فأتى الرعدُ حازماً ليقرّعهم ويهدم أسوار خيبتهم.
من أين تأتي، يا رعدُ، بالشجاعة كلّها، وهؤلاء يرتسم الرعب على شفاههم؟ من أيّ صخرٍ قُدّ زندُك وأيَّ شرر تقدحُ عيناك؟ أولستَ شاباً في مقتبل العمر، ألم يكن لك حبيبةٌ تخبّئ لها ورد السياج في كتبك المدرسية، وتوفّر مصروفك اليومي لتشتري لها به شالاً أو مشبك شعرٍ أو إصبع تلوين شفاه؟ ألم يكن لك أحلامٌ بالعيش معها في بيتٍ تُنجبون فيه أطفالاً يعيشون حياة هانئة وادعة؟ ألم تعشق السفر يوماً؟ ألم تحلم بركوب الطائرة والنظر إلى الأرض كصقرٍ يشعر بأنّه ملك السماء بلا منازع؟ أم إنّك راغبٌ عن حبّ الجميلات إلى حبّ الأجمل، وعازفٌ عن متعِ الدنيا إلى المتعة الأكبر، وزاهدٌ بسعادة زائلة طامعٌ بالمطلق منها والأبدي؟
لن يهنأ أبناءُ المستوطنين ما دام أبناءُ فلسطين محرومين من أرضهم وحقوقهم، ولن تأمن إسرائيل ولو بنت ألف سور إسمنتي وألف قبّة حديدية ما دام الفلسطينيون غير آمنين على حياتهم ومستقبلهم. إنّها معادلة الرعب التي لم يفهمها العالم بعدُ، معادلة الحياة بالحياة والموت بالشهادة. أمّا النصر أخيراً فهو حليف الحق وصاحبه، وإن طال الزمن وتكالب الأعداء وتثاقل الأصدقاء.

علّمنا رعدُ وأترابه المعنى الحقيقي للمقاومة. وببطولاتهم سحبوا البساط من تحت كلّ مدّعٍ منافقٍ مختال

رعد وأقرانه من صبايا فلسطين وشبابها شعلةٌ لم تنطفئ نارها منذ النكبة، بل هاجسٌ تحمله أكتاف أبطالٍ جسورين كأبطال الأولمب وأكثر، ما أضاعوا الدرب ولا فقدوا البوصلة، وهذا خيار أهلهم الذي سطّروه عبر الأجيال، وهو الذي سيبقي جذوة الحق راية مرفوعةً وناراً مشبوبة في قلوب الشباب العربي والمسلم لإجهاض كل تطبيعٍ وخذله ولإسقاط كل انبطاح وتعريته.
لأنّ غالبية البشر مجبولون على الأخذ، لا على العطاء، فإنهم لا يتعاطفون مع الضعفاء إلا نادراً، وإن فعلوا فإنما للحظات عابرة سرعان ما تتبدّد وتزول. يتعاطف البشر مع الأقوياء، لأنهم ببساطة يستطيعون أن يأخذوا منهم ما ينقصهم أو ما يحتاجونه، الشجاعة، الإقدام، القوّة وأيّ قيمة أخلاقية أو غير أخلاقية حتى. هذا ما أدركه الفلسطينيون جيلاً بعد جيل، لهذا بدأوا نهج المقاومة باكراً، ولم يعوّلوا كثيراً على خطابات الحكّام العرب الرنّانة. هذا ما أدركه الأوكرانيون أيضاً، لذلك نجد العالم كلّه يقف أمام دفاعهم عن أرضهم باحترام وتقدير كبيريْن، ونجد الرؤساء والقادة يتسابقون لزيارة عاصمتهم ولتقديم الدعم والمساندة لهم.
علّمنا رعدُ وأترابه المعنى الحقيقي للمقاومة. وببطولاتهم هذه سحبوا البساط من تحت كلّ مدّعٍ منافقٍ مختال، يرفع رايات تحرير القدس عبر طريقٍ لا يمرّ ولن يمرّ أبداً منها، بل على جثث أطفال سورية والعراق واليمن ولبنان. هنيئاً لفلسطين بك، يا رعد، هنيئاً لنا جميعاً بك وبأمثالك من أيقونات التضحية والفداء والجمال.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود