رسالة لن يقرأها بايدن
السيد الرئيس جو بايدن:
أودّ أن أستسمحك في مخاطبتك بصورة مباشرة، وعذري في ذلك أن الظرف عصيب يتحدّى الشكليات والمراتب، وأنك رئيس الدولة العظمى ذات التأثير الذي لا يضاهى في الشرق الأوسط. وكما قد ترى، لم تكن تقديراتك السابقة بإمكانية تقليل الاهتمام الأميركي بالملف الفلسطيني الإسرائيلي في محلها إطلاقاً، فهذا الملف سرعان ما يسخُن، نتيجة الاختلالات الهائلة في احترام حقوق البشر وكرامتهم، والجنوح إلى سياسات متشدّدة متطرّفة، تستسهل اللجوء إلى العنف العاري واستعراض القوة. وهكذا فقد شاءت الظروف أن يتم فرض الملف على إدارتكم، بدون أن تكونوا مهيئين للتعامل معه. وبهذا، بدأت سلسلة الأخطاء من هنا. من الانتقاء المسبق الإرادي لملفات التوتر، وعلى طريقة انتقاء أفضل الأسواق للتصدير.
وقد تكاثرت الأخطاء بعدئذ، فقد تجاهلتم الرفض الإسرائيلي لحق أبناء القدس الشرقية في المشاركة في الانتخابات الفلسطينية التي كانت مقرّرة. وتبع ذلك تصاعد العنف لقوة الاحتلال الإسرائيلية في القدس الشرقية، خلال شهر الصوم (رمضان)، ما يُنذر بمواجهات. غير أن ردود الفعل الباهتة من إدارتكم شجّعت حكومة بنيامين نتنياهو على المضي في التوتير، وإبداء أقصى درجات الاستفزاز للمدنيين العزّل، ابتداء من أبناء القدس العرب المقيمين في بيوتهم في حي الشيخ جرّاح إلى الانتهاك اليومي لحرمة المسجد الأقصى، والتنكيل بمن يؤدّون الصلاة داخل المسجد، على يد قوات الشرطة ومليشيات المستوطنين المسلحين. وقد ثارت احتجاجات في القدس العربية من طرف الشبان المقادسة، وتم قمعها كالعادة بالحديد والنار. وفي هذه الأجواء الملتهبة، خرجت تحذيرات شديدة اللهجة من غزة لقوات الاحتلال تدعوها إلى التوقف عن استباحة المقدسات والتنكيل بعائلات حي الشيخ جرّاح، وقد تم التعامل بغطرسة واستخفاف مع هذه التحذيرات. في واقع االحال بدأت المواجهة الخطيرة من هناك وفي تلك الأيام، فلما أطلقت رشقات صاروخية من غزة إذا بأنصار الحرب في تل أبيب يهتفون: ها هي الفرصة قد سنحت لإشعال حرب واسعة مدمرة ضد قطاع غزة. لا نعني بذلك أن حدث إطلاق رشقات صاروخية كان هيناً، غير أن تاريخ الاحتكاكات العسكرية في دول العالم ينبئ باللجوء إلى الرد بالمثل في مثل هذه الحالات، وليس بقرع طبول الحرب والمسارعة إلى خوضها..
تجاهلتم يا سيادة الرئيس الرفض الإسرائيلي لحق أبناء القدس الشرقية في المشاركة في الانتخابات الفلسطينية التي كانت مقرّرة
لقد شئتم، السيد الرئيس، عقب هذه التطورات، أن تراكموا الأخطاء بدل تصحيح السابق منها، فسارعتم إلى ترديد تلك العبارة التي تردّدت من قبل آلاف المرات على ألسنة مسؤولين أميركيين عقودا، وعلى مدى الحروب كلها في منطقتنا، وهي أن لإسرائيل الحق بالدفاع عن نفسها. وبطبيعة الحال، لكل الدول والكيانات السياسية في عالمنا حق الدفاع عن النفس، فما الجديد في الأمر؟ الجديد، هذه المرة وفي كل مرة، أنكم تعطون حقا حصريا لإسرائيل في الدفاع عن النفس، وتتجاهلون سريان هذا الحق على الأطراف الأخرى. وقد التقط نتنياهو عبارتكم من أجل تسويغ توسيع الحرب على البنى التحتية والإدارات الحكومية وعلى المباني السكنية وعلى المصارف. وأصبحتم بعدئذ، السيد الرئيس، أسرى لهذه اللعبة المميتة في التسويغ وزيادة الأخطاء، حينما صرّحتم بأن رد الفعل الإسرائيلي غير مُبالغ به. في الوقت الذي كان يتساقط فيه المدنيون بالعشرات يوميا مع مئات من الجرحى والمصابين، وما تلا ذلك من صواريخ على منشآت وبلدات في إسرائيل. وكان من الطبيعي أن يرى نتنياهو في ذلك تشجيعا على توسيع الحرب على الرقعة الأكثر اكتظاظا بالسكان في عالمنا.
تصرّفت، خلال الأزمة الرهيبة، بما هو أدنى بكثير من التوقعات، علماً أنك أذكى وأفضل بكثير مما ظهرتَ عليه
وبينما أخذت تثور ردود فعل دولية مندّدة بخيار الحرب، بدأ مجلس الأمن في الانعقاد، وقد نجحتم (ويا له من نجاح، الفشل أفضل منه) في منع المجلس أربع مرّات في إصدار بيان يدعو إلى وقف إطلاق نار فوري. وكانت حجّتكم في ذلك أن أي تطوّر مثل هذا يفسد جهودكم الدبلوماسية الهادئة والمكثفة، وهو ما لا يقبله الإدراك السليم، فمهمة مجلس الأمن هي السهر على إحلال الأمن في العالم، ومن أوجب واجباته التصدّي للتعامل مع التوترات الخطيرة. وكان المجلس مهتما بإصدار بيان، مجرد بيان، وليس إصدار قرار. وكان من شأن البيان أن يشكل عامل ضغط مقبولا على الطرفين لوقف إطلاق النار، لكن إدارتكم شاءت تعطيل عمل مجلس الأمن، ومنعته من أداء مهامه الأولية والبديهية، وذلك لتمكين نتنياهو من مواصلة حربه. ووفقا للمنطق المعلن لإدارتكم، إن من الأفضل حل مجلس الأمن، إلغاءه، كي لا يفسد الجهود السياسية في أي وقت وفي أي مكان. ومن الجلي أن نتنياهو ورجالات الحرب في تل أبيب قد أفادوا إفادة كبيرة من تعطل أداء مجلس الأمن واجباته، كي يواصلوا استعراض القوة ضد قطاع غزة. إن أداءكم في الأمم المتحدة كان شنيعاً ومشيناً، ومن قبيل التذاكي البائس.
السيد الرئيس
لا يتبع آلاف المصلين المسلمين في القدس لحركة حماس، لا هم ولا عائلات حي الشيخ جرّاح، وكذلك نحو مائة طفل وسيدة في غزة صعدت أرواحهم البريئة إلى بارئها نتيجة تقاعسكم وممالأتكم القاتل الذي يتمسّك بعقيدته في استئصال المدنيين الفلسطينيين، والسعي إلى حرمانهم من أي أمل في بناء حياة وطنية مستقلة على أرضهم المحتلة منذ العام 1967. وقد أظهرتم، للأسف الشديد، حساسية ضعيفة ضد هدم الأبراج والشقق السكنية ودفن العائلات تحت الأنقاض. ووضعتم أنفسكم لاحقا في موضع الضعيف الذي يلتمس قبول طلباتكم بوقف إطلاق النار، فيما كان نتنياهو يجيبكم بأن شهيته على القتل ما زالت مفتوحة، وأنه لا يشعر بعد بالاكتفاء، وأنه بحاجة إلى مزيد من الوقت. لقد بنى من قبل رؤساء سابقون العلاقات الأميركية الإسرائيلية على مبدأ أن المصالح التوسعية الإسرائيلية تتقدّم على المصالح العليا الأميركية.
كان من الطبيعي أن يرى نتنياهو في سلوكك وردة فعلك على ما يجري في فلسطين المحتلة تشجيعا على توسيع الحرب على الرقعة الأكثر اكتظاظا بالسكان
إنه إرثٌ ثقيلٌ ومقيتٌ يكبّلكم.. ندرك انحياز البيت الأبيض الأتوماتيكي وشبه الهستيري للدولة المحتلة المتنكرة للقرارات الدولية. وباستثناء قلة منهم، مثل باراك أوباما وبيل كلينتون ودوايت إيزنهاور، فإن الرؤساء الأميركيين، وأنت في عدادهم، يجازفون مرّة بعد مرة، في تلطيخ الصورة الأميركية في أنظار ملايين البشر في الشرق الأوسط وفي العالم، وحتى داخل أميركا، فقد سئمت أجيال جديدة تنتمي لأعراق مختلفة من الناشطين الاجتماعيين والأكاديميين والفنانين والرياضيين وسواهم في بلادكم، داخل الحزب الديمقراطي وخارجه، هذا الانحياز الروتيني المريض الذي يأباه كل منطق، وترفضه كل مصلحة وطنية، والذي يبلغ حد الالتصاق بالمجتمع السياسي الإسرائيلي، بما في ذلك الالتحاق بالتيارات اليمينية المتطرّفة التي يجول أفرادها بالسلاح في شوارع القدس وبلدات الضفة الغربية المحتلة، وينكّلون بالمدنيين العزّل.
السيد الرئيس
بصراحة، تصرّفت، خلال هذه الأزمة الرهيبة، بما هو أدنى بكثير من التوقعات، علماً أنك أذكى وأفضل بكثير مما ظهرتَ عليه. لقد شئت التصرّف بطريقة نمطية، تقليدية، وبليدة، سمحت للمجازر بأن تحدُث وتتكرر، ولا شك أنك بحاجة إلى جهد هائل وملموس، كي تزيل هذه الوصمة.
لن تقرأ هذه الرسالة، لا مشكلة، يكفي أن تصل إلى بعض من منحوك أصواتهم، وأحسنوا الظن بك، وخيبت آمالهم.