رسائل مقاطعي الانتخابات البرلمانية في تونس

28 ديسمبر 2022

(نجا المهداوي)

+ الخط -

مقاطعة الانتخابات فعل احتجاجي ومن أشكال العصيان المدني، السلمي، المضادّ للنظام السياسي السائد. وتكون غالبا ناتجة من وجود فجوة بين الحاكم وجمهور المحكومين، وعدم ثقتهم في المسار الانتخابي ومخرجاته. وقد درج طيفٌ معتبرٌ من التونسيين خلال عشرية الانتقال الديمقراطي على الإقبال بكثافة على صناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم في المجلس النيابي وفي البلديات وفي مؤسسة الرئاسة. وجرى الفعل الانتخابي في كنف الشفافية والنزاهة بشهادة منظمات رقابية محلّية ودولية موثوقة. وتجلّت حماسة المواطنين للاقتراع بشكل لافت في الانتخابات التشريعية. ففي انتخابات المجلس التأسيسي عام 2011 بلغت نسبة المصوّتين حوالي 52% من الجسم الانتخابي، وارتفعت عام 2014 إلى 69%، فيما شارك 41% من مجموع من يحقّ لهم التصويت في اختيار ممثليهم في مجلس نوّاب الشعب عام 2019. أمّا في ظلّ حكم الاستثناء (25/07/2021) الذي أعلنه الرئيس قيس سعيّد من جانب واحد، وحلّ بمقتضاه حكومة هشام المشيشي، وأغلق البرلمان المنتخب، وانقلب على دستور الثورة، وحلّ المجلس الأعلى للقضاء، فقد تراجع إقبال التونسيين على التصويت، وتفاعلوا بشكلٍ باهت مع محامل الخريطة الانتخابية الأحادية التي فرضها سعيّد على الناس، فلم يشارك في "الاستشارة الإلكترونية الرئاسية" سوى 5.9% من المواطنين. وفي 25 يوليو/ تموز 2022، لم تتعدّ نسبة المشاركين في الاستفتاء على مشروع الدستور الذي وضعه سعيّد، حدود 27%،  بحسب الهيئة العليا للانتخابات التي عينها سعيّد بمرسوم رئاسي. وأخبرت الهيئة نفسها أخيرا أنّ نسبة المشاركة المواطنية في انتخابات أعضاء المجلس النيابي الجديد) 17/12/2022 (تقدّر بـ11.22% من مجموع الناخبين، وهي نسبة مشاركة هزيلة، وغير مسبوقة في تاريخ الانتخابات التشريعية في تونس قبل الثورة وبعدها. وتعتبر مقاطعة زهاء 90% ممن يحقّ لهم الاقتراع الحدث الانتخابي فعلا سياسيا، احتجاجيا، دالا، يحمل طيّه رسائل عدّة من المفيد الوقوف عندها.
تتّجه رسائل المقاطعين أوّلا إلى رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، باعتباره مهندس ما يُعرف بمسار 25 جويليه (يوليو/ تموز 2021)، فهو من ركب حركة احتجاجية محدودة ليُعلن عن تدابير استثنائية جوهرية، حلّ بمقتضاها جلّ المؤسسات السيادية (الحكومة، البرلمان، مجلس القضاء) والهيئات المدنية الحيوية (هيئة مراقبة دستورية القوانين، هيئة مكافحة الفساد)، وهو من أصدر المراسيم تلو المراسيم، ليضمن هيمنته على السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وهو مَن عيّن حكومة جديدة تأتمر بأوامره، ومَن وضع دستورا جديدا على طريقته، منحه صلاحيات سلطوية واسعة، وهو مَن عدّل القانون الانتخابي على هواه، ووعد الناس بتحسين أوضاعهم المعيشية، واحترام الحرّيات العامّة والخاصّة، واستعادة الأموال المنهوبة، ومحاسبة الفاسدين، والنهوض بمناطق الظل. لكنّ شيئا من هذا كله لم يتحقّق. فقد ضاق العيش، وتراجعت الحقوق الفردية والجماعية، واتسعت دوائر البطالة والفقر والإحساس بالإحباط واللايقين.

صرخة احتجاج في وجه "حكومة الغلاء والاجتباء وقلّة الغذاء والدواء"، كما يُسمّيها جلّ التونسيين

زعم سعيّد في كلّ خطوة تغييرية/ أحادية أقدم عليها أنّه يمثّل الإرادة الشعبية وينطق بصوت الجماهير. لكنّ مقاطعة التونسيين انتخابات 17/12/2022 جاءت لتفنّد ذلك الزعم، مُخبرة باعتراض جلّ المواطنين على مسار 25/07/2021 ومخرجاته، وبتراجع شعبية الرئيس المؤسّس للمسار إلى مليون مناصر فحسب من مجموع تسعة ملايين يجوز لهم التصويت. ولسان حال المقاطعين يقول إنّ الشعب يريد ما لا تريد، يا سيادة الرئيس... ومن ثمّة، الامتناع عن التصويت لبرلمان الرئيس الذي لا يملك صلاحياتٍ تمثيلية ورقابية فعلية بموجب الدستور الجديد هو في الحقيقة احتجاجٌ صامتٌ على إلغاء المشروع الديمقراطي، وعلى تدهور الوضعين، المعيشي والحقوقي، وهيمنة سياسات الانفراد بالسلطة، وتكريس الحكم الرئاسوي المطلق في تونس بعد ما تسمّى حركة 25/07/2021.
الطرف الثاني الذي وجّه إليه المقاطعون للانتخابات البرلمانية رسائلهم هو حكومة نجلاء بودن التي جرى تعيينها بموجب الأمر الرئاسي عدد 117، وعوّل عليها الرئيس قيس سعيّد في تنفيذ أجندته الإصلاحية. وبعد عام ويزيد من أدائها مهامها، أصبحت الحكومة المذكورة عنوانا للفشل الشامل في نظر معظم التونسيين. ذلك أنّها لم تقم بالإصلاحات المأمولة اقتصاديا واجتماعيا. في عهدها انخفض الترتيب السيادي لتونس، وأصبح أربعة ملايين من التونسيين في عداد الفقراء، وزاد عدد العاطلين من العمل، واكتوى الناس بلهيب ارتفاع الأسعار، وتدهورت مقدرتهم الشرائية بشكل غير مسبوق. وفي مدّة رئاسة بودن الحكومة، قلّ الغذاء والدواء. وأمسى المواطن يُمضي سحابة يومه باحثا عن كيس سكّر أو قارورة حليب أو زيت نباتي. وتراه لا يجد وقتا للتوجّه إلى صناديق الاقتراع، ولا يقبل عمليا بالمشاركة في تزكية مسار سياسي ونظام حاكم لم يضمن له الكفاف، ولم يحقّق له الأمن الغذائي المطلوب، فمقاطعة الاستحقاق الانتخابي، في جانب ما، رسالة لوم عالية النبرة، موجّهة إلى فريق حكومي، أدمن سياسات التقشف ورفع الدعم عن المواد الأساسية، وأرهق المواطنين بالضرائب، وهي صرخة احتجاج في وجه "حكومة الغلاء والاجتباء وقلّة الغذاء والدواء"، كما يُسمّيها جلّ التونسيين.

إحجام معظم المواطنين عن الإدلاء بأصواتهم يُعدّ رسالة صريحة/ مباشرة، موجّهة إلى المترشّحين/ الأفراد المتنافسين في المعترك الانتخابي

الرسالة الثالثة عنوانها الهيئة المنظّمة للانتخابات التي أنفقت المال الكثير لتنظيم الدور الأوّل من التشريعيات، وأسرفت في توجيه إرساليات إلكترونية إلى المواطنين عبر هواتفهم الجوّالة لدعوتهم إلى التصويت. لكنّ أغلبهم لم يستجيبوا لدعوتها لعدم ثقتهم في هيئةٍ جلّ أعضائها معيّنون، وغير منتخبين. كما أنّهم يعتبون عليها لزومها الصمت، وتزكيتها التعديلات الرئاسية على القانون الانتخابي، رغم ما تضمّنته من إخلالاتٍ، من بينها إقرار نظام الاقتراع على الأفراد، وشرط التزكية وسحب الوكالة من النوّاب، وتهميش الأحزاب، والنساء والشباب، فلم تكن الهيئة المذكورة قوّة نقد، ولا اقتراح ولا تعديل. بل كانت ظلاّ للسلطة التنفيذية. لذلك، لم يلتفت جلّ المواطنين لحملاتها الدعائية، ولم يسلّموا بحيادها وصدقيتها، ورفضوا عمليّا أن يأتمنوها على أصواتهم.   
كما أنّ إحجام معظم المواطنين عن الإدلاء بأصواتهم يُعدّ رسالة صريحة/ مباشرة، موجّهة إلى المترشّحين /الأفراد المتنافسين في المعترك الانتخابي، فرفضهم الذهاب إلى مراكز الاقتراع والتصويت دالّ على عدم اقتناعهم ببرامج هؤلاء، وعدم الثقة في قدرتهم على القيام بدورهم التمثيلي في ظلّ برلمان صوري، مجرّد من الصلاحيات الرقابية الفعلية على الحكومة ورئيس الجمهورية. يضاف إلى ذلك أنّ أغلب المترشّحين مغمورون، وليست لديهم سوابق نضالية أو قيادية معتبرة، وليسوا متحزّبين، وثقافة بعضهم السياسية محدودة، ومرجعيته الأيديولوجية غير واضحة. لذلك رفض جلّ المواطنين المغامرة بانتخاب نوّاب مجهولين، بلا هوية حزبيّة واضحة وبلا خطط برامجية واقعية. ودلّ ذلك على أنّ الخزّان الانتخابي الشعبي ما انفكّ ميّالا إلى نظام الاقتراع على القوائم الحزبية، ويبدو غير متحمّسٍ لنظام الاقتراع على الأفراد لما يكتنفه من ارتجال، وغموض وضبابية، ولعدم إلْفة الناس به.

المرجّح أنّ سعيّد لن يلتفت إلى مراجعة أدائه الأحادي/ الشمولي إلّا بعد اندلاع ثورة شوارع ممكنة في الداخل التونسي

على صعيد آخر، بعث المقاطعون المتحزّبون رسائل قويّة مفادها وفاؤهم للمهاد الحزبي الذي ينتمون إليه، وانضباطهم لتعليمات قادة الأحزاب المعارضة الذين عدّوا مشروع قيس سعيّد انقلابا، ودعوا إلى مقاطعة الانتخابات التشريعية (حركة النهضة، الدستوري الحر، التيار الديمقراطي، حزب العمّال، ائتلاف الكرامة، آفاق تونس، الحزب الجمهوري). فقد بدا واضحا أنّ الأحزاب الوازنة، رغم ما تعرّضت له من حملات ترذيل، وتشويه، وشيطنة، قبل 25/07/2021 وبعده، ما زالت مكوّنا أساسيا في الحياة السياسية، وقوّة تحشيد وضغط فاعلة ومؤثّرة في المشهد الانتخابي، فعلى خلاف رأي قيس سعيّد وأنصاره أنّ "عصر الأحزاب انتهى"، بات واضحا أنّ الأحزاب المعارضة استعادت شعبيتها بالتدريج، ولسان المقاطعين فيها يقول :"لا ديمقراطية ولا سياسة من دون أحزاب". وأحرى بالطيف المعارض، بحسب مراقبين، اغتنام هذه اللحظة التاريخية وهذا الزلزال الانتخابي لتجاوز خلافاته الأيديولوجية القديمة العقيمة، وحساباته الضيّقة، وتوحيد صفوفه وتنسيق جهوده من أجل وضع حدّ للانحراف الأحادي بالسلطة، واستعادة مشروع الدمقرطة التشاركية، والتداول السلمي على الحكم بالبلاد.
سيؤدّي فعل المقاطعة المكثفة للتشريعيات إلى إنتاج برلمان هشّ، يتكوّن من شتات أفراد، لا يتمتعون بحاضنة شعبية واسعة، وكذا إطالة مدّة حكم الاستثناء، فرئيس الجمهورية سيستمرّ في حكم البلاد بالمراسيم إلى حين ظهور البرلمان بغرفتيه. لكنّ الثابت أن المقاطعة عمل احتجاجي سلمي، أخبر بعدم رضا كثيرين على حصيلة حركة 25/07/2021 التي أجهضت الحلم الديمقراطي، وعطّلت الانتقال الاقتصادي، واستنزفت شعبية الرئيس قيس سعيّد، وزادت من اتساع الفجوة بينه وبين ناخبيه في رئاسيات 2019.
ختاما، هجر الرئيس قيس سعيّد الديمقراطية التشاركية في قراراته، فأجابه الناس بهجْر صناديق الاقتراع عندما احتاجهم لتأييد مشروعه في الحكم، فكانت  مقاطعة الانتخابات التشريعية ثورة احتجاجية صامتة على المسار الذي اتّبعه منذ 25 يوليو/ تموز 2022 ومخرجاته. ويبدو أنّ النظام القائم لم يتمكّن بعدُ من فكّ شفرات تلك المقاطعة الشعبية الواسعة، ولم يستوعب رسائلها المعبّرة الكثيرة. وما انفكّ يروّج لخطاب الاعتداد بالذات، وإنكار الواقع، ويُدمن تخوين الآخرين. والمرجّح أنّه لن يلتفت إلى مراجعة أدائه الأحادي/ الشمولي إلّا بعد اندلاع ثورة شوارع ممكنة في الداخل التونسي، بحسب مراقبين.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.