27 سبتمبر 2018
ردٌّ ونقاش: عن أولوية الواقع أو أولوية الأفكار
رد الصديق علي العبدالله على مقال لي في "العربي الجديد"، يتعلق بأهداف الثورة بعد سيطرة الأسلمة، في مقال له، نشر في 6 يناير/كانون الثاني الجاري، معتبراً فيه أنني أنطلق من الأفكار المسبقة، وليس من الواقع. لهذا، يختم رده بتوضيح تعقيدات وضع الثورة السورية، والغريب أن إشاراته حول ذلك تتوافق تماماً، بل تكرّر، أحياناً، ما ورد في مقالي المذكور، على الرغم من أنه يعتبر أن توضيحه هذا يكشف المسبقات النظرية التي حكمت تحليلي. فقد أشرت إلى وضع الثورة، ولم أحصرها في المجموعات الأصولية، بل تحدثت عن الشباب والكتائب المسلحة، وأيضاً، عن تعقيدات الوضع والتدخل الإقليمي والدولي فيها. وذلك كله كنت قد شرحته مكرراً في عشرات المقالات سابقاً، وأوردته ملخصاً في المقال ذاك.
إذن، ينقد ماذا؟ من سياق الرد لمست أن الأمر يتعلق بمسألة هل نقبل بما يجري، أم يجب أن نتناول بالنقد والتفكيك هذا الواقع، ومن ثم أن يتوجه فعلنا إلى تحديد مسارات التغيير، وأهدافه، واستراتيجياته. وبالتالي، أن تحاول بقدراتنا على تعميم ذلك، وعلى التأثير الفعلي بالقدر المستطاع؟ يقول الصديق علي، هذا هو الواقع، وقلت إن هذا هو الواقع، لكنني نقدت وفكّكت من أجل أن أحاول الدفع باتجاه مسار يخدم تطور الثورة. هذا ليس مسبقات إلا للذين يكرسون العفوية، ويرون أن الواقع يجري بما هو، وليس علينا سوى الوصف. من هذا المنطلق، هو يستحضر زياد رحباني ومسألة الحزب، وما "كتبه مفكرو اليسار في القرن الماضي عن الثورة، وشروط انفجارها"، مع العلم أنني كنت من الذين فككوا خطاب "شروط الثورة" في مقالات وكتب عن الثورة السورية، بينما الأمر، هنا، يتعلق بثورة انفجرت، تستوجب تحديد دور "النخب" و"الساسة"، وليس التوصيف فقط. لهذا، فإن "الدارس الموضوعي ملزم بتناول الواقعة بظروفها وشروطها وتحديد طبيعتها الخاصة". لكن، ليس من أجل أن "يحكم إن كانت قد نجحت في منطلقاتها، وانسجمت مع ذاتها في ممارستها، وحققت، أو لم تحقق، أهدافها"، بل من أجل أن يعرف ميكانزماتها، ويعمل على التأثير فيها، بما يجعلها تتقدم بشكل أفضل، وإلا يكون خارجياً عنها، مهمته أن يدرس تحقيق ذلك كتقييم لها. أي أن الباحث الحيادي هو الذي يفعل ذلك، وليس المنخرط في الثورة، معتبراً أنه جزء منها. وأنه بـ "وعيه"، يمكن أن يفيد في توضيح مسارها وتطويره، لهذا، يمارس النقد، ويضع البدائل في مسارها. توضح هذه الجملة أن الصديق علي هو الذي "ينطلق من مسبقات نمطية، وفق مسطرة خاصة". بالضبط، لأن منظوره هو منظور "مراقب".
ثم إنني لم أتحدث عن "انزياح الثورة السورية" من مطلب الحرية إلى إقامة الدولة الإسلامية، بل قلت إن ما "بات يظهر أن القوى التي تقاتل السلطة هي تلك القوى الأصولية"، وكلمة ما بات يظهر تعني الإشارة في الشكل الذي تظهر فيه، إلى ما يبدو للآخرين، لكن، في المقال توضيح واف عن القوى التي تصارع السلطة والقوى الأصولية معاً. وبالتالي، لم أحصر الصراع في ثنائية سلطة وكتائب إسلامية، حيث تناولت الشعب. ثم إنني لا أعتبر أن القوى الأصولية، من داعش إلى جيش الإسلام، مروراً بالنصرة وأحرار الشام وغيرها من قوى الثورة. والهدف المركزي من مقالي السابق كان توضيح ذلك تحديداً، حيث إن برنامج "الدولة الإسلامية"، بما يتضمن، كما شرحت، هو ضد الثورة كما قلت. ولهذا، لا بد من مواجهة ليس السلطة فقط، بل هذه القوى أيضاً، على الرغم من صعوبة ذلك وتعقيداته. بالتالي، أتحدث عن الثورة الممثلة بكل ما أشار إليه الصديق علي، والتي أشرت إليها بتوسع أكبر في مقالي.
بالتأكيد، هنا جزء من المشكلة مع علي كما أظن، لهذا يصل، في الأخير، إلى أنني أتجاهل "موقع الإسلام في وعي وثقافة السوريين، ودوره في تكوين شخصيتهم وتوجهاتهم العامة". وهو هنا يسقط مسبقاته، أولاً، ثم إنه يوصّف حالة راهنة من دون تحديد ظروفها، بل يكتفي باعتبار أن الأمر الطبيعي أن يميل الشباب إلى الكتائب الإسلامية. يا صديقي، لو رجعت إلى سنوات الأربعينيات والخمسينيات إلى السبعينيات، ستجد الوضع مختلفاً، على الرغم من أن الشعب كان يعيش في حالة تخلف أسوأ، حيث كان الفكر التحرري هو المسيطر (من دون أن يمسّ ذلك تدين قطاع مهم من المجتمع)، ومن ثم بعد الثمانينات، جرت عملية تدين. ألا يستحق ذلك السؤال عن السبب الذي جعل الشعب نفسه يعيش الحالين؟ أليس هنا سبب أعمق من التدين، لكي يجعل هؤلاء يميلون هنا أو هناك؟ هنا، لا بد من البحث في الواقع، وليس الانطلاق من الأفكار، فالأمر يتعلق بواقع الناس المادي، أي مقدرتهم على العيش، فهذا هو الذي جعلهم يدعمون قوى تحررية (ولو حتى بدا أنها وهم) حينها، وأن ينكمشوا نحو التدين بعد الانهيار الذي حدث، والأزمة المعيشية التي باتوا يعيشونها، وانسداد الأفق أمام الشباب خصوصاً. ولا شك في أن الثورة فتحت نحو تجاوز هذا الانكماش (وهذا ملاحظ في مصر وتونس وغيرها، حيث يميل الشباب الذي كان متديناً إلى اليسار، أو العلمنة، ولا يعني ذلك أن يترك الدين).
طبعاً، ما يجعل الصديق علي يقول إنني أنطلق من مسبقات نظرية، أو نمطية، هو تأكيدي على أن الحرية ليست المطلب الوحيد، هي كذلك لنخبة فقط، لكن الشعب يريد تحسين وضعه الاقتصادي، فهذا تحليل ماركسي نمطي. لكن وضع سورية كان كذلك، وإذا لم يتابع الصديق علي وضع الشعب، يكفي أن أذكر له رقمين فقط، الأول أن نسبة البطالة كانت بين 30و33% من القوى العاملة، خصوصاً بين الشباب، وأن الحد الأدنى للمعيشة كان يجب أن يكون 31 ألف ليرة، حسب دراسة أُعدت للدولة، بينما كان الحد الأدنى هو ستة آلاف، ومتوسط الأجور هو 11 ألفاً. هذا يعني أن ما يقارب الـ 80% كانوا تحت خط الفقر.
أخيراً، بخصوص مسألة إسقاط النظام، لم أنفِ ضرورة الشعار، فهو خلاصة ثورة تريد إسقاط النظام. لكن، لا بد من أن يكون هناك برنامج واضح للبديل الذي يجب أن يستلم السلطة بعد الإسقاط، وإلا ظللنا في العفوية، ووصلنا إلى الفوضى. وهو مرحلة أولى، لكنها غير كافية، لأن الأحزاب يجب أن تطرح ما يجب أن يتحقق على ضوء إسقاط النظام، وإلا تركنا الأمر فراغاً، ليستغلّ من السلطة والقوى الأصولية معاً. وهذا ما دعاني إلى نقد حصر الأمر في الحرية وإسقاط السلطة، حيث يجب التعبير عن كل مطالب الشعب، المطالب التي تريدها كل طبقة ثائرة، وكل فئة مشاركة.
إذن، ينقد ماذا؟ من سياق الرد لمست أن الأمر يتعلق بمسألة هل نقبل بما يجري، أم يجب أن نتناول بالنقد والتفكيك هذا الواقع، ومن ثم أن يتوجه فعلنا إلى تحديد مسارات التغيير، وأهدافه، واستراتيجياته. وبالتالي، أن تحاول بقدراتنا على تعميم ذلك، وعلى التأثير الفعلي بالقدر المستطاع؟ يقول الصديق علي، هذا هو الواقع، وقلت إن هذا هو الواقع، لكنني نقدت وفكّكت من أجل أن أحاول الدفع باتجاه مسار يخدم تطور الثورة. هذا ليس مسبقات إلا للذين يكرسون العفوية، ويرون أن الواقع يجري بما هو، وليس علينا سوى الوصف. من هذا المنطلق، هو يستحضر زياد رحباني ومسألة الحزب، وما "كتبه مفكرو اليسار في القرن الماضي عن الثورة، وشروط انفجارها"، مع العلم أنني كنت من الذين فككوا خطاب "شروط الثورة" في مقالات وكتب عن الثورة السورية، بينما الأمر، هنا، يتعلق بثورة انفجرت، تستوجب تحديد دور "النخب" و"الساسة"، وليس التوصيف فقط. لهذا، فإن "الدارس الموضوعي ملزم بتناول الواقعة بظروفها وشروطها وتحديد طبيعتها الخاصة". لكن، ليس من أجل أن "يحكم إن كانت قد نجحت في منطلقاتها، وانسجمت مع ذاتها في ممارستها، وحققت، أو لم تحقق، أهدافها"، بل من أجل أن يعرف ميكانزماتها، ويعمل على التأثير فيها، بما يجعلها تتقدم بشكل أفضل، وإلا يكون خارجياً عنها، مهمته أن يدرس تحقيق ذلك كتقييم لها. أي أن الباحث الحيادي هو الذي يفعل ذلك، وليس المنخرط في الثورة، معتبراً أنه جزء منها. وأنه بـ "وعيه"، يمكن أن يفيد في توضيح مسارها وتطويره، لهذا، يمارس النقد، ويضع البدائل في مسارها. توضح هذه الجملة أن الصديق علي هو الذي "ينطلق من مسبقات نمطية، وفق مسطرة خاصة". بالضبط، لأن منظوره هو منظور "مراقب".
بالتأكيد، هنا جزء من المشكلة مع علي كما أظن، لهذا يصل، في الأخير، إلى أنني أتجاهل "موقع الإسلام في وعي وثقافة السوريين، ودوره في تكوين شخصيتهم وتوجهاتهم العامة". وهو هنا يسقط مسبقاته، أولاً، ثم إنه يوصّف حالة راهنة من دون تحديد ظروفها، بل يكتفي باعتبار أن الأمر الطبيعي أن يميل الشباب إلى الكتائب الإسلامية. يا صديقي، لو رجعت إلى سنوات الأربعينيات والخمسينيات إلى السبعينيات، ستجد الوضع مختلفاً، على الرغم من أن الشعب كان يعيش في حالة تخلف أسوأ، حيث كان الفكر التحرري هو المسيطر (من دون أن يمسّ ذلك تدين قطاع مهم من المجتمع)، ومن ثم بعد الثمانينات، جرت عملية تدين. ألا يستحق ذلك السؤال عن السبب الذي جعل الشعب نفسه يعيش الحالين؟ أليس هنا سبب أعمق من التدين، لكي يجعل هؤلاء يميلون هنا أو هناك؟ هنا، لا بد من البحث في الواقع، وليس الانطلاق من الأفكار، فالأمر يتعلق بواقع الناس المادي، أي مقدرتهم على العيش، فهذا هو الذي جعلهم يدعمون قوى تحررية (ولو حتى بدا أنها وهم) حينها، وأن ينكمشوا نحو التدين بعد الانهيار الذي حدث، والأزمة المعيشية التي باتوا يعيشونها، وانسداد الأفق أمام الشباب خصوصاً. ولا شك في أن الثورة فتحت نحو تجاوز هذا الانكماش (وهذا ملاحظ في مصر وتونس وغيرها، حيث يميل الشباب الذي كان متديناً إلى اليسار، أو العلمنة، ولا يعني ذلك أن يترك الدين).
طبعاً، ما يجعل الصديق علي يقول إنني أنطلق من مسبقات نظرية، أو نمطية، هو تأكيدي على أن الحرية ليست المطلب الوحيد، هي كذلك لنخبة فقط، لكن الشعب يريد تحسين وضعه الاقتصادي، فهذا تحليل ماركسي نمطي. لكن وضع سورية كان كذلك، وإذا لم يتابع الصديق علي وضع الشعب، يكفي أن أذكر له رقمين فقط، الأول أن نسبة البطالة كانت بين 30و33% من القوى العاملة، خصوصاً بين الشباب، وأن الحد الأدنى للمعيشة كان يجب أن يكون 31 ألف ليرة، حسب دراسة أُعدت للدولة، بينما كان الحد الأدنى هو ستة آلاف، ومتوسط الأجور هو 11 ألفاً. هذا يعني أن ما يقارب الـ 80% كانوا تحت خط الفقر.
أخيراً، بخصوص مسألة إسقاط النظام، لم أنفِ ضرورة الشعار، فهو خلاصة ثورة تريد إسقاط النظام. لكن، لا بد من أن يكون هناك برنامج واضح للبديل الذي يجب أن يستلم السلطة بعد الإسقاط، وإلا ظللنا في العفوية، ووصلنا إلى الفوضى. وهو مرحلة أولى، لكنها غير كافية، لأن الأحزاب يجب أن تطرح ما يجب أن يتحقق على ضوء إسقاط النظام، وإلا تركنا الأمر فراغاً، ليستغلّ من السلطة والقوى الأصولية معاً. وهذا ما دعاني إلى نقد حصر الأمر في الحرية وإسقاط السلطة، حيث يجب التعبير عن كل مطالب الشعب، المطالب التي تريدها كل طبقة ثائرة، وكل فئة مشاركة.