رحيل غورباتشوف ومستقبل العالم
هو الرجل الذي غيّر التاريخ الروسي. حاول، عبر مفهومي البرويسترويكا والغلاسنوست، إعادة الروح للاتحاد السوفييتي، واستنهاض الاشتراكية، ولكن النتائج كانت كارثيةً، وانهار الاتحاد. كان الصينيون أذكى بمراحل، لقد قرأوا واقعهم جيداً ولم يضحّوا بما راكموه منذ 1949، وما بنوه من قاعدة صناعية، وأقاموا علاقاتهم مع الغرب الرأسمالي، وفقاً لحاجات تطوّر اقتصادهم ومجتمعهم.
لم يتبنّ غورباتشوف الطريق الصيني إلى الرأسمالية، رغم أنهما دولتان اشتراكيتان، أي متشابهتان في مختلف المجالات. القضية هنا لا تناقَش من زاوية اختلاف التجربة التاريخية وتراكم مشكلاتها، وبالتالي الحلول كذلك. كان غورباتشوف على رأس الدولة، ولديه كل مقدّراتها، وقواها، وأجهزتها، أمناً وجيشاً؛ كان قادراً على إحداث تغيير سياسي حقيقي؛ فالبلاد تحتاجه بقوّة، وقبل السياسي كان عليه أن يجتهد من أجل التغيير في التطورين الصناعي والزراعي، وهنا خطؤه الكبير. لم يستند إلى قوى الدولة، وهي قادرة على التغيير؛ وهو ما فعلته الدولة الأميركية بعد أزمة 2008 بدعم البنوك الخاصة من البنك المركزي، وكذلك ما فعلته الصين، ولدينا فيتنام، وهناك كوبا. وبالطبع لن نتطرق إلى كوريا، نظراً للرداءة التي يعيشها نظام هذا البلد، وهي دولة خارج التاريخ، بالمعنى الحقيقي للكلمة.
بعكس تحليلاتٍ كثيرة متسرّعة؛ كانت روسيا، لحظة مجيء غورباتشوف، تحوز بنية صناعية وعلوما متقدّمة في المجالات كافة، الاقتصادية والطبيعية، وكانت قادرة على تطوير تلك البنية، وهذا أهم ما فعلته الاشتراكية في هذا البلد، وهذا ما فعله، وإن بسياق التأسيس لدولة رأسمالية مستبدّة، وبإطار مشروع إمبريالي، ناهب للمحيط الأوراسي، وتتجه إلى تعزيز دورها العالمي، ودعم الأنظمة المستبدّة في العالم.
كانت روسيا، لحظة مجيء غورباتشوف، تحوز بنية صناعية وعلوما متقدّمة في المجالات كافة
لم تتحقّق إعادة الهيكلة، وهذا في زمن غورباتشوف؛ لقد تفكّك البلد، وتضخّمت النزعات الدينية والقومية، وجاهرت دول كثيرة بالالتحاق بالغرب. الخطأ الكبير الذي وقع فيه غورباتشوف أنه لم يمتلك استراتيجية للانتقال بروسيا، رأسمالية أو اشتراكية لا فرق، وهذا أدّى إلى الخيار الرأسمالي بأسوأ أشكاله؛ فما حدث أن كبار النخبة البيروقراطية في الاتحاد السوفييتي استقلوا ببلادهم الأصلية، وشكّلوا دولاً خاصة، لهم ولأسرهم، أذربيجان، جورجيا، كازاخستان، ولا تزال بعض تلك الجمهوريات تُقاد من بقايا أولاد تلك النخب. أيضاً شكّل الانفتاح العشوائي على الغرب، وليس انطلاقاً من حاجات روسيا في التطور تدميراً للاقتصاد الروسي المنهك. ومع وصول يلتسين إلى الحكم، أُمعن في ذلك الانفتاح وبدون أي ضوابط، وكأنّه سلّم روسيا لأميركا وللغرب. منذ حينه، بيعت قطاعات الدولة بأرخص الأثمان، واستولت عليها جماعات قريبة من النخبة البيروقراطية، وتم تفكيك قطاعاتٍ كثيرة منها، وهذا أسوأ ما حصل للاتحاد السوفييتي؛ أثرياء روسيا الآن هم ناهبو الاتحاد السوفييتي القديم.
لم تستعد روسيا قوّتها إلا بعد سنواتٍ من مجيء بوتين، والنخبة المحيطة به، والتي وعت جيداً مشكلات العالم، وأن إنهاء الحرب الباردة، وتفكيك الاتحاد السوفييتي، لم يكوّنا مرحلة جديدة في التاريخ، بل كانا تحطيماً للدولة السوفييتية؛ وتمّ ذلك لصالح الولايات المتحدة. لا شك أن بوتين ونخبته منشغلان بكيفية السيطرة الروسية من جديد على محيط روسيا، ومن أجل فرض نظام عالمي جديد، تكون روسيا أساسيةً فيه، أي أن بوتين ليس مشغولاً بإعادة الاتحاد السوفييتي ومجده، أو تطوير الاشتراكية، كما يتوهم بعض الممانعين العرب، وأن العزلة التي هي فيها والعقوبات، تعيد روسيا إلى لحظة 1917، والعقوبات الأوروبية حينها والحصار، وبالتالي الحل يكمن في الاشتراكية. بوتين ونخبته مجرّد زعماء مافيات من أجل نهب روسيا ومحيطها، وهذا هو هدف الحرب على أوكرانيا.
فشل كبير، ولكن الفشل في العالم المُتخلف لا يقتصر على الدول التي كانت اشتراكية، بل وأيضا الدول الرأسمالية
خسر العالم كثيراً بتفكيك الاتحاد السوفييتي، حيث برزت أميركا دولة قائدة للعالم، لكنها لم تمتلك مشروعاً لاستنهاضه. كان دخولها أفغانستان والعراق بمثابة مأساة لم تنته؛ وبدلاً من تطوير الاتحاد السوفييتي، تعرّضت قطاعات الدولة لعملية نهبٍ وتخريبٍ كبيريْن، وحاولت أميركا الهيمنة على محيط روسيا، ودعمت "الثورات الملونة". مشكلة أميركا أنّها لم تدفع الدول المحيطة بروسيا نحو تجارب تنموية وديمقراطية حقيقية؛ فهذه ليست على قائمة مشاريعها العالمية. ومن التفاهة القول إن أميركا لا تملك استراتيجية للعالم، أو أن ذلك ليس من مهامها. هي دولةٌ تهيمن على العالم، وجيوشها في كل قارّات الأرض.
هل أصبح العالم أفضل بزوال الاتحاد السوفييتي. انتهت تجارب تنموية كثيرة، وفُكِكت على أرضية مشاريع الخصخصة وبيع القطاع العام، وأعيد إنتاج التبعية بكل أشكالها، الاقتصادية والسياسية؛ لاحظ مصر بعد مرحلة جمال عبد الناصر، وفي زمن حسني مبارك اكتمل السوء، وكانت الثورات العربية في أواخر 2010، في وجهها الأساسي بسبب السياسة النيوليبرالية العالمية التي تبنّتها أميركا وأوروبا والبنوك الدولية، ومع انهيار الدواخل العربية، كانت الثورات.
تصوير التغيير في أيّة دولة بشكلٍ ساذج، كما فعل غورباتشوف، كانت حصيلته ما ذكرنا، حتى الثورات العربية افتقدت الاستراتيجية، بينما الصين وفيتنام استطاعتا التغيير، وأقامتا علاقات دولية راسخة ولا سيما مع أميركا. وهنا علينا أن ندقّق؛ العالم لا يهتم بشكل جاد بمسألة الحريات أو النظام الديمقراطي، كما كذبت أميركا حينما غزت العراق 2003. سذاجة غورباتشوف دفعته إلى الاستعجال في الانفتاحين، الداخلي والخارجي. وهذا أسّس لانهيار داخلي وخارج للاتحاد السوفييتي سريع؛ بفترة حكم غورباتشوف (1985 - 1990) تكثفت المرحلة الانتقالية؛ فالنظام الحاكم يتبنّاها بكلّ قوّة، وهذا الأمر أفقد المجتمع الروسي القدرة على الدفاع عن نفسه، وساعد هذا جماعات الانفتاح على الغرب في اقتناص الفرصة لإحداث التغيير السياسي النيو ليبرالي. مرحلة يلتسين مثال على هذا.
خسر العالم كثيراً بتفكيك الاتحاد السوفييتي، حيث برزت أميركا دولة قائدة للعالم، لكنها لم تمتلك مشروعاً لاستنهاضه
لا يسير العالم وفقاً لشرعة حقوق الإنسان والنظام الديمقراطي، فهذه مسائل لا تتخطّى حدود أميركا المحكومة من حزبين، ولا حدود الاتحاد الأوروبي، وكان دعم الأخير أوروبا الشرقية باتجاه التحول الديمقراطي يشبه دعم أميركا النمور الآسيوية، بقصد مواجهة الصين في فترة الحرب الباردة. تلك الدول استفادت، وأحدثت تطوّراً كبيراً، ولكنها ظلّت تابعة للأميركان، لندقق الآن كيف تنخرط تلك الدول بالأحلاف التي تشكلها أميركا ضد الصين.
فَشِلَ غورباتشوف في ما انتصر فيه لينين، أي في 1917، حيث التاريخ ليس لعبة، والأخير خاض صراعاتٍ عنيفةً من أجل انتصار الثورة الاشتراكية، وفتح انتصاره مجالاً للشعوب المختلفة لتنتصر بدورها وتطوّر نفسها، كالصين مثلاً، ومئات الدول التي تبنّت الحركات الوطنية والقومية للاستقلال والاستنهاض. هناك فشل كبير، ولكن الفشل في العالم المُتخلف لا يقتصر على الدول التي كانت اشتراكية، بل وأيضا الدول الرأسمالية، وبالتالي، هناك ضرورة من أجل نقاشٍ عميقٍ للأزمات العالمية.
في كل الأحوال، لم يكن غورباتشوف مؤهلاً ليقود التحوّل الديمقراطي، حيث استُعيد النظام الاستبدادي المافيوي بأسوأ أشكاله مع بوتين. يتطلب التاريخ رؤىً استراتيجية جديدة، تنهض بالشعوب بكل مستويات المجتمع، سياسة واقتصاداً وتعليماً وثقافة ومختلف أوجهه؛ تجربة الصين ناقصة، وتجربة أميركا والاتحاد الأوروبي ناقصة في عدم تطوير العالم أو دعم الديمقراطية فيه، ولا سيما بعد الثورات العربية كما أشار مروان قبلان، بذكاء، في مقالته "الديمقراطية والعقدة الأوروبية" في "العربي الجديد".