رحلة رفيق اللحام
كان طيّبا من التشكيلي الأردني، الراحل أخيرا عن 88 عاما، رفيق اللحام، أنه أصدر مذكّراته "رحلتي مع الحياة والفن" (إشراف وتحرير هاني الحوراني، أمانة عمّان الكبرى بالتعاون مع دار سندباد للنشر والتوزيع، عمّان، 2011). وإذا يبدو الكتابُ كلاسيكيا ومدرسيا، وربما احتاج إلى إجادةٍ أفضل في التأمل في مسار التجربة وتنوّعها وانعطافاتها، إلا أنه يبقى فائق الأهمية، بالنظر إلى أنه كتاب السيرة الوحيد لتشكيليٍّ أردنيٍّ كتبه بنفسه. يلقّب اللحام "شيخ الفنانين الأردنيين" (مواليد دمشق 1933، والقادم إلى عمّان في سن الثمانية عشر عاما)، وساهم، منذ مطالع الخمسينيات، في حياكة حركةٍ تشكيليةٍ أردنية، مع أبناء جيله الذين يعدّون روّادا بحق، (مهنا الدّرة وأحمد نعواش وكمال بلاطة وعفاف عرفات و...) وإنْ ثمّة بواكير أولى سبقتْهم، وعلى ما كتَب فإن مرسمَه في جبل عمّان، في تلك الغضون، كان أول محترفٍ لفنانٍ أردني. وأظنّها الإطلالة على تلك المرحلة، كما يضيء عليها رفيق اللحام ويوثّقها، ذات إفادةٍ مهمةٍ في التعريف، بعين الشاهد والمشارك، على ما كانتْه مدينة عمّان الناهضة والفتيّة على صعيد التنشيط الثقافي والفني. وذلك بعد إطلالةٍ بسطها الرائد الراحل (توفي في 30 من يوليو/ تموز الفائت) على دمشق في أواخر الأربعينيات، وقد درس في ثانويةٍ مهنيةٍ فيها، وتدرّب على فنون الخط العربي، وتتلمذ على أيدي معلّمين قديرين هناك، حتى إذا قدِم إلى عمّان، بعد أن سبقتْه أسرُته إليها، وضع أولى خطوات انتقاله من الهواية إلى الاحتراف، وزاول تدريس الخط والرسم لهواةٍ وتلاميذ ومتذوقين، ثم ينشط، في 1952، في تأسيس أول تجمّعٍ للفنانين الأردنيين باسم "ندوة الفن الأردنية".
تُحقّق القراءة عن تلك المرحلة، كما يروي عنها فنانٌ عارفٌ، ذوّاقةٌ، ظل فاعلا في التنشيط الفني والثقافي الأردني أكثر من ستة عقود، شيئا من المتعة الخاصة، ذلك أن فيها ما يمكن استلهامه، من حيث حيوية شبابٍ محبّين للفنون، طموحين في بلدٍ ساهم الوافدون إليه من فلسطين والشام في نهوضِه. وعندما يسرُد رفيق اللحام سيرته الوظيفية والمهنية في القصور الملكية ثم وزارة السياحة، فإنه يأتي على كثيرين جايلوه وزاملوه، وكانت رفقتُه لهم من العوامل التي أغنت حياته ومسيرته، وهو الذي وازى عملَه الوظيفيَّ الذي تعلق غالبا بإدارة الأنشطة السياحية والثقافية، وبتعريف العالم بالأردن وفنونه، في أسفار ومهماتٍ عديدةٍ أدّاها صاحبنا، وأفاد واستفاد، وازاه مع سياحته في الفن، رسّاما تنوّعت أدواته، وإن غلب على كثيرٍ من أعماله اشتغالُه على الحرف العربي، وهو المسكون بجماليّات هذا الحرف وخطوطه، كما أخلص لخياراتِه الجمالية التي انشدّت إلى الموروث العربي والزخرف الإسلامي والمفردات الشعبية. وعلى ما أورد مؤرّخون ونقادٌ وعارفون، كان رفيق اللحام أول فنانٍ أردني يستخدم في الستينيات الحرف العربي. وفي الأثناء، احتلت القدس مكانةً كبرى في شغله، ويكتب في مذكّراته إنها "المدينة التي لم يرسمها فنانٌ بقدر ما رسمتُها وكرّست لها من الوقت". ومع تطوير إمكاناته وقدراته التي منها على ما ذكر صديقنا الناقد التشكيلي، غسّان مفاضلة، "هندسة الجمال"، كان أول فنانٍ أردنيٍّ يمارس فن الغرافيك بكل أنواعه، وهو الذي أفاد من دراسته الفن، في أكاديميةٍ إيطاليةٍ في روما في الستينيات، مبتثَعا من الحكومة، ودراسته الأخرى تاليا في كلية للفنون الجميلة في نيويورك.
ربما يتفق معي كثيرون في أن رفيق اللحام حظي في الأردن بشيءٍ من الشهرة، وبحيّزٍ عريضٍ من الحضور الإعلامي، فاق ما سنح لغيره من زملائه ومجايليه ومن الجيل التالي له، ما قد لا يعني، بالضرورة، أنهم أقلّ كعبا منه. وإذا كان هذا قد يعود إلى الوظائف الحكومية التي شغلها، فإن السبب الأهم، على الأرجح، تنوّع المناشط التي أعطى فيها، وتعدّد المجالات الفنية التي أنجز فيها، ومنها تصاميم الملصقات السياحية ولمناسباتٍ مختلفة، وكذلك تنفيذه خرائط ومطوياتٍ مطبوعةً بلا عدد، عدا عن طوايع بريدية، وشعارات مؤسّسات وجامعات وهيئات مختلفة.. وفي البال أيضا أنه صاحب تصميم أول نُصبٍ فني في مدينة عمّان.
شكرا للصديق هاني الحوراني الذي كان وراء إصدار كتاب مذكّرات رفيق اللحام الذي أمكن لصاحب هذه الكلمات بقراءته، بعد عقدٍ على صدوره، أن يتعرّف جيدا على فنانٍ تشكيليٍّ وحفّارٍ وعاشق للحرف والقدس، رائدٍ ومجرّبٍ، صاحب حضورٍ فاعلٍ لا يُنسى في فضاء الثقافة والفنون في الأردن .. رحم الله رفيق اللحام.