"رام الله" .. رواية الروايات
تُقبِل على قراءة رواية "رام الله" (منشورات المتوسط، ميلانو، 2020)، للفلسطيني عباد يحيى (1988)، وفيك تهيّبٌ من عدد صفحاتها الـ 730، وتحدّث نفسَك عمّا إذا كنتَ ستنجذبُ إلى ما سيكونُه السرد والحكي والقصّ واللغة فيها، وكذا مبناها العام، ومُرسلاتُها ومحمولاتُها، أم أنك ستكابد وأنت تقرأ، إذا ما وجدتَ إيقاعَها قد غابت عنه الحرارة اللازمة في أي نصٍّ إبداعي رائق، أو افتقد المتانة التي تُلملم الوقائع والأزمنة والأمكنة في روايةٍ بهذا الحجم. تعبُر إلى "رام الله"، وحالُك هذا. تقرأ، وإنْ هي إلا صفحاتٌ معدوداتٌ حتى تلقاكَ في ورطةٍ غير هيّنة، ذلك أن عباد يحيى أنقذك، من البداية، من المكابدة المتخوّف منها، فقد أخذَك، منذ هذه الصفحات، في إشراقاتٍ وإحالاتٍ نابهة، ومن مداخل ظاهرةٍ وأخرى موحيةٍ وثالثةٍ مواربةٍ، إلى أكثر من روايةٍ، وإلى أكثر من زمن، وإلى أنفاسٍ غزيرةٍ موصولةٍ ومضمومة. وأرخى قدّامك خيوطا غير مكتملة، ليُبقيك ليس مُنجذبا وحسب إلى ما سيتراكم، في رحلة القراءة التي تخوضها، من حوادث وقصصٍ ومروّياتٍ، ومن أمزجةٍ ومشاعر وحشايا لأشخاصٍ يتعدّدون ويتنوّعون، في طوفانٍ من حكاياتٍ تتناوب أو تتوازى أو تتجاور، أو تتوالد من بعضها، بل أيضا ستكون منجذبا إلى معرفة الحلول التي سيفكّك فيها السرد عقدا وإشكالاتٍ وتوتراتٍ وأسراراً (وألغازا) بلا عددٍ في توالي الصفحات وتتابع الأسطر. ثم لا تتيسّر لك هذه المعرفة باليُسر الذي توفره قصص التسلية أو روايات التشاطر المتذاكية، وإنما بالتضافر الوفير الوشائج، البليغ التماسُك، بين البناءات الصغرى والكبرى في المعمار السردي الباهظ، الممتدّ على نحو 130 عاما، والمتوزّع من بؤرةٍ مكانيةٍ مركزية، اسمها رام الله، إلى عالمٍ شاسع، يتجاوز القدس وبيروت ونابلس ويافا وغيرها إلى أميركا وأوروبا والبحر المتوسط. ستُحرز فائضا من المتعة، عندما تُفاجئك الحكاياتُ التي تتوالى بغير ما قد تتوقع (أو تريد؟) من خواتيم لها، وعندما تنفكّ أحداثٌ بغير ما تأمل (!). وأيضا عندما ينفتح القصّ على مساحاتٍ واسعةٍ من جوانيّات الأفراد ودواخل أفئدتهم وعقولهم، ولكلّ منهم (إلا قليلين) حيّزه الوافي في هذا العمل الذي أشبعَ كل شخصيةٍ فيه، وجعلها مكتملةً إلى حد باهرٍ أحيانا. وبالكفاءة نفسها، ينفتح القصّ على مساحاتٍ أخرى، فسيحةٍ أيضا، للمجموع والعام، للتاريخيّ واليومي، للسياسيّ والاجتماعي، للحقيقيّ والمتخيل. وكذا للمكان وجغرافياتِه المتعيّنة بالناس فيها. وفي الأثناء، ثمّة فلسطين كلها، منذ 1890 إلى 2017.
إذن، من غير الحصافة أن توجِز هذه المقالة الحكايةَ الكبرى التي تنشغل بها "رام الله"، والحكاياتِ المتوالدة منها، وما أحدثته أزمنةٌ تعاقبت منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى في فلسطين وصولا إلى ما تبدو عليه أحوال السلطة الفلسطينية في رام الله. ليس فقط لأن كل إيجازٍ مخلّ، وإنما أيضا لأن هذا العمل الروائي، النادر المثال في المدوّنة الروائية الفلسطينية، ينتسب إلى ما اتفق أهل الدرس النقدي على تسميتها "رواية الأجيال"، ولهذا الأمر متطلباتُه عند الكتابة عنه، والتأمّل فيه. ولكن، في الوُسع أن يقال هنا إن عباد يحيى بنى من حكاية أسرة بطرس النجار في رام الله، ومن قصة بيتها وجواره وفضاءاتٍ حواليه، ومن ناسٍ سكنوا فيه من غير أصحابه، ومن حكايات أجيال هذه الأسرة في تعاقبٍ مشدودٍ ممسوك، ورائقٍ وجذّاب من قبلُ ومن بعدُ، بنى معمارا أطلّت منه الرواية على مقاطع وفيرةٍ من حكاية فلسطين، ناسا ومكانا. وتوازيا مع هذه الأسرة، المسيحية للتذكير (وهذا رهيفٌ حقا)، منذ ما قبل نوم طويلٍ لزوج واحدةٍ من بنات الأسرة، إلى بيع البيت الذي انبنى بكدٍّ وأناقةٍ، أولا، في ثلاثينيات القرن الماضي، إلى وفاة شخصيةٍ مركزيةٍ في الرواية (سالم، .. أظنّها شخصيةً استثنائيةً في الرواية الفلسطينية عموما)، في مقطع باهظ الإيحاءات والظلال والمغازي، توازياً مع هذا (بالإيجاز المخلّ هنا)، ثمّة محكية الأستاذ الجامعي مع وفاة زوجته مبكّرا، وانكشاف مقاطع من حياتها تاليا، وقد كانت تحبّ مصوّرا لديه أرشيف عن فلسطين وعذابات ناسٍ منها.
نهضت "رام الله" على رواية عتبات البيت رواياتٍ جاءت على أعيان رام الله ومناضليها وأثريائها وفقرائها، وعلى ثوراتٍ وانتفاضاتٍ وحروبٍ وهجراتٍ، و... واتصفت لغة السرد والقصّ بالتقشّف الذي لا يتوسّل الاستعارات والمجازات الشعرية. وإنما حضرت المشاعر والأخيلة، وما تبثّه القرائح والحواسّ عن الحب والفقد والخسران والألم، عن الفرح والمتعة والبهجة، بالتصوير العام الذي يجول في الخواطر والأنفس والعقول.. وكذا في الأمكنة، وفي طبقات التاريخ وأزمنته التي تسارعت وأبطأت. وفي الغضون، أخذت قارئا متحسّبا، في الصفحات الأولى، إلى مباهج وفيرة، وهو يتورّط في رواية الروايات، وفي مصاحبة سالم وخليل ونعمة وهيلانة وبطرس وكمال وربى وعماد وموسى وحنة وفرحة وإفلين وماري وجهاد ومازن وريما وسمر وجميل وسعاد وسعيد و.. وأيضا وهو يأسى على عالمٍ مضى وانهار.