رئيسي في دمشق لا الرياض
سالَ حبرٌ كثير عن بيان المصالحة في بكين بين الرياض وطهران، وأعلن في 10 مارس/ آذار 2023. وجاء في سياق أنّ المنطقة تتجه نحو خيارٍ آخر، غير خيار اتفاقيات إبراهام ومواجهة تمدّد إيران، وربما الحرب عليها؛ بل جاءت تلك المصالحة لتوقف الخيار "الإبراهيمي"، وقيل إن السعودية قد تَدخُله، وجَهِدَت أبوظبي لإشراك النظام السوري فيه. بعد عدّة أيامٍ يكتمل الشهران، اللذان أعطتهما السعودية لإيران للتقدّم في المصالحة، ولإظهار حسن النية، ولا شك أن هناك تحرّكات إيجابية على الساحة اليمنية، مدفوعة إيرانياً، ولكن الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، بدلاً من تلبية دعوة العاهل السعودي لزيارة الرياض، وجاءت بعد البيان، زار دمشق أمس الأربعاء، 3 مايو/ أيار الجاري. إذاً، لا تسير سكّة المصالحة، كما تشتهي السعودية، وهناك سكّة أخرى، تريد طهران للمصالحة أن تسير عليها؛ إنّها سكّة العلاقات مع المنطقة كما قبل 2011. وبذلك، تريد إيران إعادة التاريخ إلى الوراء، والاستمرار بالسيطرة على أربع عواصم عربية والاستمرار بسياسة التشييع وملء الفراغ الأميركي، وهذا من باب المستحيلات.
إبراهيم رئيسي أوّل رئيس إيراني يزور دمشق منذ 2011، وتأجلت زيارته عدّة مرّات، ولكنّها تحدّدت أخيراً. كان التأجيل، لأسبابٍ تتعلق بتعثر التفاهم بين النظامين، الإيراني والسوري، حيث هناك خلافات على حجم الديون بصورة رئيسية، وأعلى التقديرات تؤكد أنّها ستون مليار دولار، وقد زار وزير الطرق والتنمية الإيراني، مهرداد بذرياش، دمشق قبل أيامٍ، على رأس وفد اقتصادي كبير، وتشكّلت ثماني لجان اقتصادية للتنسيق بين العاصمتين بخصوص الاتفاقيات الاقتصادية الاستراتيجية بينهما، وتشمل استثماراتٍ طويلة الأجل، ولمعالجة الديون، والكهرباء، والنفط، والتحويلات المصرفية، والنقل السككي والبحري، والسياحة واستملاك الأراضي السورية، لا استئجارها، ومرفأ بحريّ، ووقّعها رئيسي في دمشق. وتناقلت وسائل الإعلام جملة للرجل، توضح رؤية طهران للعلاقة مع المنطقة، وضمناً المصالحة أعلاه، وتقول: "النظام العالمي والإقليمي يسير في صالحنا"، أي في صالح إيران والنظام السوري ومحور "المقاومة"، مثل حزب الله وحركة حماس... الزيارة هذه تأتي بعد مبادرة سعودية ناشطة في أيامنا هذه، وجاءت بعد التوافق الأمني الواسع بين النظام والسعودية، وبعد زيارة لوزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، للرياض، وزيارة وزير خارجية السعودية، فيصل بن فرحان، لدمشق. وانعقد اجتماع لوزراء خارجية دول مجلس التعاون والأردن ومصر والعراق في جدّة، وقد صدر عنه بيان يؤكّد ضرورة الحل السياسي في سورية، وكذلك، عقدت المجموعة نفسها، في الأول من مايو/ أيار الجاري، في عمّان اجتماعاً للغاية ذاتها، وبحضور وزير الخارجية السورية، فيصل المقداد، وأكد ضرورة تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، وسياسة الخطوة خطوة الأردنية، والعودة الآمنة للاجئين.
رؤية إيران والنظام السوري، هي وصل ما انقطع بين 2023 و2011. وإعادة التاريخ إلى الخلف
لا تلاقي زيارة رئيسي المبادرة السعودية، لا في منتصف الطريق، ولا في بدايتها، حيث يأتي الرجل إلى دمشق ليعلن انتصاره والسلطة السورية على "الإرهاب"، وعادة ما يشار إلى دورٍ خليجي في الوضع السوري الكارثي. الاتفاقيات الاقتصادية هي تكملة للانتصار العسكري، وبالتالي، على المبادرة السعودية أن تغيّر اتجاهها، وتسير على السكّة الإيرانية، وتعترف بالانتصار ذاك، وتساعد في إعادة إعمار سورية بقيادة الشركات الإيرانية، وتدفع لها! لتستمر، وإلّا فهي بحكم المتوفّاة.
لم تتقدّم العلاقات بين السعودية ونظام دمشق كثيراً، وكذلك الأمر بما يخصّ مصر والأردن. أمّا نظام دمشق، فكان يبتغي قضايا أخرى، غير ما أرادت السعودية، وهناك دول عربية لم تستسغ التطبيع معه من الأصل، وظلّت متحفّظة عليه، كقطر والكويت والمغرب. ويضع انتقال إيران إلى علاقات اقتصادية متينة مع نظام دمشق حدوداً نهائية للمبادرة السعودية التي كانت تهدف إلى تخفيف الوجود الإيراني؛ فشكل العلاقة بين دمشق وطهران، علاقة محافظة ضمن الدولة الواحدة، وليست بين نظامين مستقلين، وبينهما اختلافات أو حتّى توافقات! وربما كان التقدّم في العلاقات بين دمشق وطهران بسبب تورّط روسيا في أوكرانيا، وحاجتها إلى إيران، فأعطتها سورية. ولهذا، ستتمحور تفاهمات طهران والرياض حول اليمن، ولن تثمر انكفاءً لإيران عن العراق أو سورية أو لبنان. وبخصوص الأخير، تضمّنت زيارة وزير الخارجية الإيرانية، حسين عبد اللهيان، أخيراً، رسائل سياسية بأن لا تغيير في شكل العلاقة بين الدولتين، وزار الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، والتقى وفوداً من حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وزار الحدود مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، ورسالته هنا أن إيران على حدودها في لبنان وفي فلسطين، وبالطبع في سورية، وهي مستعدّة للحرب.
القرارات الدولية لم تتغيّر بخصوص الموقف من دمشق، بل تزداد العقوبات عليها، وتطاول شخصياتٍ مرتبطة بالنظام بصورة وثيقة
تبدو التصريحات بعد اجتماع عمّان أنّ المبادرة السعودية ما زالت تتحرّك بالاتجاه ذاته، وهذا سيؤدي إلى إدارة الظهر لها من النظام السوري في المستقبل، وأيضاً، وبغياب العودة الآمنة للاجئين، ورفض السير بسياسة الخطوة خطوة، أو مقاربة قرار مجلس الأمن 2254، فإن نظام دمشق لن يستطيع تحصيل مليارات الدولارات من السعودية، ولا أن تتوسط له لدى أميركا وأوروبا لرفع العقوبات عنه؛ ولا سيما أن القرارات الدولية لم تتغيّر بخصوص الموقف من دمشق، بل تزداد العقوبات عليها، وتطاول شخصياتٍ مرتبطة بالنظام بصورة وثيقة. وهناك القانونان الأميركيان، "قيصر" و"الكبتاغون"، اللذان يمنعان شرعنة النظام من جديد. صحيح أن أميركا تدفع تنظيمي قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومجلس سوريا الديمقراطية (مسد) إلى الحوار مع النظام، ولا تمنع الانفتاح الأوّلي للدول العربية عليه، لكن ذلك يتطلّب تغييراً في سلوكه. وترسل الاتفاقيات التي سيضع رئيسي توقيعه عليها رسالة سلبية للغاية للمبادرات العربية، وكذلك للسياسة الأميركية والأوروبية، وقد لا تُعجِب الصين كذلك.
هناك مبادرة إضافية، تقودها تركيا، للتقارب مع النظام، وهذه ستتأثر بالاتفاقيات الاقتصادية أعلاه، التي هي لمصلحة إيران، وستكون لنتائج الانتخابات التركية، وفي حال فوز أردوغان فيها، بداية للبطء في التطبيع، وقد ساهم الزلزال بدوره في ذلك؛ وكذلك، إعادة اجتماع وزراء الدفاع والاستخبارات في روسيا في الأسبوع الماضي، بدلاً من وزراء الخارجية. إن عدم اجتماع وزراء خارجية الرباعية (إيران وروسيا وتركيا والسلطة السورية) في موسكو، وقد كان على قائمة اللقاءات من قبل، يؤكّد الاختلاف الكبير بين الشروط التركية وشروط النظام السوري لتحقيق التقارب.
كان على رئيسي أن يتواضع، ويزور الرياض بدلاً من دمشق، وأن يعزّز أواصر الثقة ويلاقي الرياض في مسعاها الإقليمي لإقامة علاقات متوازنة
رؤية إيران والنظام السوري، هي وصل ما انقطع بين 2023 و2011. وإعادة التاريخ إلى الخلف. لا تعي الدولتان أن ذلك غير ممكن، وأنّهما معنيتان بتقديم رؤى وسياسات جديدة كليّاً للدواخل المحليّة وللمنطقة برمّتها، وليس بمقدور الصين أو روسيا مساعدة إيران والنظام السوري، في تلك الإعادة. بخصوص النظام، ليس هناك أيّة إمكانية لتعويمه دوليّاً، وها هي عملية تعويمه عربيّاً تصل إلى طريقٍ مسدودٍ تقريباً، وستقتصر على علاقات دبلوماسية واستخباراتية.
كان على رئيسي أن يتواضع، ويزور الرياض بدلاً من دمشق، وأن يعزّز أواصر الثقة ويلاقي الرياض في مسعاها الإقليمي لإقامة علاقات متوازنة، ليس فيها تبعية لإيران أو تركيا أو إسرائيل. وبتفويته هذه الفرصة، قد تعيد السعودية النظر في بيان المصالحة في بكين. وبالطبع، ستنفتح إزاء أيّة سياسات للحدِّ من النفوذ الإيراني، بما فيها سياسات الولايات المتحدة. وهناك عودة لقوات أميركية إلى المنطقة. وهناك تقارير تؤكّد أن كلاً من أميركا وإسرائيل تتجهزان لحرب خاطفة ضد النظام الإيراني، ولنفترض أنهما في طور التجهيز فقط، فإن السياسة الإيرانية، كما أوضحتها السطور أعلاه، وعدم زيارة للرياض، خاطئة بالكامل.