رأس الحكمة إشهار الأسئلة

رأس الحكمة إشهار الأسئلة

26 فبراير 2024

(Getty)

+ الخط -

في مجتمعٍ تم تجريدُه من الحقّ في المساءلة والمحاسبة، وحرمانه من تلقّي الأجوبة، تصبح الجرأة على طرح الأسئلة وإشهارها في وجه من يحتكرون الحقيقة المطلقة نوعًا من الفروسية، بل هي فضيلة الفضائل زمن الصمت، حتى وإن كانت تضع صاحبها في خانة الخارجين على مقتضيات الوطنية الجديدة في اللاجمهورية الجديدة، التي لا تحسب حسابًا للجمهور.
في هذا المناخ العجيب، وفي ظلّ حالة التعبئة الإعلامية الجبّارة يصبح الإعلان عن استحواذ الإمارات على 190 مليون مربّع من الأرض المصرية في منطقة رأس الحكمة على الساحل الشمالي الغربي، عند بعضهم إنجازاً تاريخيّاً لا يقلّ خطورة وأهمية عن عبور أكتوبر 1973، فيما يصبح كل من يجرُؤ على طرح الأسئلة عن أشياء جوهرية، مثل السيادة على الأرض، وهل هي صفقة بيع أم حقّ انتفاع مدى الحياة، ومقابل الصفقة وتوقيتها، حاقداً على الوطن وكارهاً الخير للمواطن، وبعبارة واحدة عدوّاً إخوانيّاً خائناً، إلى آخر هذه القائمة من الاتهامات المعلّبة فاقدة الصلاحية فاسدة المحتوى كريهة الرائحة.
الحديث هنا عن التوقيت اللافت للغاية في خطوة الإمارات بضخّ 35 مليار دولار خلال شهرين فقط في ميزانية الحكومة المصرية من خلال صفقةٍ تصل، في منتهاها، إلى دفع ما يقرُب من مائتي مليار دولار، إذ يأتي ذلك في ظل ظرف إقليمي معقد، يكثر فيه الكلام عن خرائط جديدة للمنطقة، وبالأخص في فلسطين وسيناريوهات إعادة احتلال غزّة والإلحاح الصهيوني على فكرة تهجير الفلسطينيين منها، إذ من المفترض أن كل هذه معطياتٌ تجعل أصحاب الأموال أكثر تحفّظّا في ارتياد مساحات استثمارية جديدة وأقل رغبة في المخاطرة حتى تستقرّ الأوضاع الإقليمية على الأقل.
والسؤال الذي لا يقل أهمية هنا هو لماذا الإمارات، الحليفة الأولى للكيان الصهيوني في المنطقة، والداعمة لإثيوبيا في سد النهضة، لماذا تخصّص حزمة مساعدات غير مسبوقة لانتشال مصر من أزمتها التي تتخبّط فيها منذ عدة أشهر؟
من المهم، بل من الواجب هنا أن يتساءل الناس عن مقدار المسافة بين مصر والقضية الفلسطينية في ظل هذا التوغّل الاستثماري الإماراتي في الأراضي المصرية، وخصوصاً أن أبو ظبي لم تُقدم على خطوةٍ بهذه الضخامة قبل ذلك إلا مع إسرائيل وإثيوبيا، حيث قرّرت في مارس/ آذار 2021 مكافأة الاحتلال الصهيوني بعشرة مليارات دولار، بعد دخولها في علاقات تطبيعٍ ساخنةٍ معها، وهو ما أعلنت عنه وكالة الأنباء الإماراتية الرسمية في ذلك الوقت، بقولها إن دولة الإمارات تعتزم إنشاء صندوق لضخّ استثمارات في قطاعات استراتيجية في إسرائيل، موضحةً إن قيمتها ستبلغ عشر مليارات دولار، بعد اتصال هاتفي بين نتنياهو ومحمد بن زايد الذي أصبح "الزعيم العظيم"، بتعبير نتنياهو بعد هذا السخاء الفادح.
من حقّ الناس أن تسأل، وتناقش وتعترض على أن اتفاقاً بهذه الضخامة يمرّ بقرار شخصي من فرد واحد من دون نقاش في البرلمان، ومن ثم الموافقة عليه، ومن دون إعلان التفاصيل على الناس، الملّاك الأصليين لهذا البلد، ولا تكفي هنا الزفّة الإعلامية المبتذلة عن السماء التي ستمطر ذهباً وعسلاً على رؤوس المواطنين، خصوصاً أنهم سمعوا هذا الكلام أكثر من مرّة خلال عشر سنوات، وطلب منهم أن يتأهبوا لاستقبال أمواج الرخاء والرفاهة.
من واجب الناس أن يقلقوا ويعبّروا عن الامتعاض من هذا الفرح المبتذل بمبدأ اقتطاع مساحات من الوطن ومنحها لجهة خارجية، سواء بيعاً أو تأجيراً أو حقّ انتفاع يمتد إلى قرن، ولا يصحّ هنا أن يقول أحدُهم، بمنتهى الخفّة والتفاهة، إن الإمارات لن تهرب بالأرض، ولن تنقلها معها إلى الخارج بفلوسها، فالثابت كذلك أن المستعمر الفرنسي لم ينقل قناة السويس من مكانها ولم يهرب بها إلى بلاده، لكنه امتلك وطناً كاملاً وافترس سيادته على أرضه، لأن الخديوي الغارق في أوهام العظمة كان على استعداد لبيع أي شيء، من أجل مجده الشخصي.
مرة أخرى: لماذا الحليف الأول للصهيوني، وكم ستصبح المسافة الروحية بين مصر وفلسطين مستقبلًا؟
فكّر بعقلك واحكم بضميرك، ولا تكفّ عن إشهار الأسئلة من دون أن تخضع لإرهاب ابتزازهم بالوطنية الفاسدة.

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا