ذوبانُ نظام الأسد في بلادِ الرمال والموت

04 يوليو 2024
+ الخط -

استناداً إلى ما آلت إليه المستجدّات أخيراً، فإنّ مجمل المحاكمات والمقاربات التي تناولت نظام الأسد في سورية، وهي كثيرة، شديدة المنعطفات، تشي بأنه لم يعد كياناً مستقلاً وفاعلاً، على أنّ هناك تتابعاً دقيقاً من المرتكزات والمحدّدات التي يستند إليها يقدّم تفسيراً شافياً للحالة السورية المأزومة، وإنْ كانت التداعيات التي تخلّفها الحروب تتجاوز حدودها الحسية والمادية المعهودة، فالعدم السوري الراهن ليس حدثاً عرضياً مارقاً يتقاطع مع عوائد "جمهورية الرعب"، إنما الدليل القاطع على مدى استهانة بشار الأسد بدماء شعبه، بعد تحويله إلى كتلةٍ بشريةٍ مُستنزفة تعزّز ثِقلَ جماهريته الواهية. أما الاستغراق في الانفعالات المجانية فيلهينا عن الحقيقة المؤلمة في هذا السياق، وهي أنه يُحسب للأسد الأب، ورغم بطشه الأعمى، إبقاء سورية مستقلّة عن التدخل الأجنبي ليجعلها الابن منطقة تنافس إقليمية، متبجّحاً بأنها لن تكون، بالضرورة، لسكّانها بل للمدافعين عنها. ولا يستقيم الحال من دون مقاربة الذهنية الأسدية في حركتها، وبناء إجماعات متناسبة مع حقول الصراع المختلفة، ليتضح بأنّ النظام السوري في ذوبانٍ تدريجي باتجاه التلاشي، كونه سقط فعلياً بعدما تحوّل إلى واحدة من قوى الأمر الواقع، وهو المدعوم من حلفٍ براغماتي يوظفه في مسرحية إعادة التأهيل المبتذلة، بالتزامن مع إعادة تدويرٍ واضح لمنطقة الشرق الأوسط، إذ وبينما كانت التراجيديا السورية صيرورة لديناميّات سابقة لعام 2011، أجّجتها الحرب وزادت من كلفها، لم يكن "طوفان الأقصى" سوى المخاض الطبيعي لتحولات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والسياق الإقليمي المؤثر عليه، وعليه سنشهد تناغم المعطيات والوقائع لتُحدث واقعاً مختلفاً في منطقة تعاني أساساً من اختلالات هيكلية وانعدام الأمن والاستقرار، أيضاً عدم القدرة على التنبّؤ.

وفي جذر ما سبقَ ذكره، من المفيد تناول جملة "سنغيّر وجه الشرق الأوسط" التي قالها، وبوضوح شديد، رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، والتي تحتمل تأويلاتٍ كثيرة، أبرزها توجيه ضربات قاضية لكلّ خصوم إسرائيل في المنطقة، ابتداء من حزب الله وانتهاء بالمليشيات الإيرانية في سورية، لكن المشكلة تكمن في أنّ خطأ صغيراً في الحسابات يُفضي إلى إثارة انفعالاتٍ مضادّة وعدائية، وهي السمة المميزة لاندلاع الحروب. لذا من الصعب التكهن بمجريات الأحداث القادمة، فالواقع الحالي أشبه "بالليل الذي تبدو فيه كلّ الأبقار سوداء" على حدّ تعبير الفيلسوف الألماني هيغل. وثمّة حقيقة جليّة هنا، أنّ المسلكَ العصبي الإسرائيلي ترقيةٌ للتطرّف إلى مرتبة عقيدة وكيان، فنرى نتنياهو يستثمر حربه على غزّة لتنفيذ مشروعه الاستعماري المُشتهى. بالتالي، الحرب السورية، وتالياً تداعيات طوفان الأقصى، ستحدّدان حياة المنطقة عقوداً مديدة، ولن يكون للإجراءات العقابية العالمية، تحديداً الأميركية، ضد إسرائيل أية قيمة مؤثرة، فنتنياهو يحتكر شرعياً القلق الوجودي الذي يسوّغ ردوداً مطلقة وجذرية، والغاية نقل إسرائيل من مرحلة الاندماج مع الشرق الأوسط إلى مرحلة القدرة على تشكيله وإعادة تركيبه وهندسته تحت قيادتها.

يُحسب للأسد الأب، ورغم بطشه الأعمى، إبقاء سورية مستقلّة عن التدخل الأجنبي ليجعلها الابن منطقة تنافس إقليمية

وهناك ما يرجّح هذه السردية، فكلّ الوقائع الميدانية، من غزّة الى الضفة الغربية إلى جنوب لبنان فسورية، تشي باستمرار حال التوجّس من اندلاع حرب شاملة على كافة المحاور التي تشهد توتراً أمنياً غير مسبوق، خاصة بعد التلويح الإسرائيلي بعمليةٍ بريّة جنوب لبنان. وليس نقيض الذمية البحثية أو المعرفية الجزم بأنّه وإنْ كانت إيران ملتزمة بقواعد الاشتباك مع إسرائيل، وإنْ كان الأسد الخيار الأفضل للأخيرة، بعدما أنجز مهمّة تدمير سورية على أكمل وجه، فإنّ إسرائيل ترى في سقوط الأسد هزيمة نكراء للطموحات الإقليمية لإيران، ويعني كذلك خطوة أولى لتفكيك حزب الله الذي يربط بين هجماته على الشمال الإسرائيلي بالحرب الدائرة في غزّة، إذ وبعد نشره صور مسيرة "الهدهد"، كما سمّاها، صرّحت تل أبيب بأنها تمتلك قدرات عسكرية ستُدهش الحزب، لتعلو نبرة نصر الله، ولربما سببها استشعاره أنّ التهديدات الإسرائيلية قد تكون جديّة هذه المرّة.

بالتساوق مع ما تقدّم، يتّضح للمتأمل في الحالة السورية أنّ النظام تضعضع، واختلفت بالتأكيد، موازينه، ومقاييسه، وتحالفاته بعد موت حافظ الأسد، وترسم المعطيات الحالية صورة قاتمة لمخرجات رحيله يصعُب التوقّع الرشيد لمسالكها، بحكم أنّ الأسد الابن يعيش حالة من العزلة والرعب في مناخٍ سياسي يعاني من الانهيارات المتتالية التي مهدت لتآكل هيكلي تتسع دوائره، فيجد نفسه مضطراً للمضي قدماً لتوطيد سلطته عبر إعادة ترتيب مؤسّسته العسكرية، والمراهنة الفاشلة على سياسة تغيير "الجواكر" الأمنية، لكن مساعيه لن تفلح أبداً، لما يواجه من تحدّيات جسام تحاصره أنّى اتجه، اشتدت بعد تهميشه "المهين" في القمة العربية التي عُقدت في المنامة وتنازله، مُجبراً، عن استضافة القمّة المقبلة لصالح العراق.

يراهن بشّار الأسد على الصمت الإسرائيلي تجاهه ولا يعلم أنه نذير شؤم باجتياحات طوفانية ستودي به

إذاً، ثمّة مؤشّرات صريحة وحاضرة تدعم الطرح المبني على الفناء المحتّم لبهائم العنف الإبادي التي تحكمت بحياة السوريين، وفكرة الذوبان التدريجي لنظام الأسد في المخاض العسير للمنطقة، وأهمها ارتفاع حدّة المواجهات بين الجيش الأردني وعصابات مهرّبي المخدرات القادمين من سورية، واعتبار أيّ تحرّك قادمٍ منها خطراً يستحق الاستهداف المباشر، والتي أثارت التساؤل عما إذا كانت الحدود السورية مع تركيا ستشهد ضغطاً مشابهاً. زاد الطين بلّة أنه ورغم رغبة الأسد اليوم بالانفتاح على جميع المبادرات التركية يأتي تشديد وزير خارجيتها، هاكان فيدان، على ضرورة التواصل مع المعارضة السورية للاتفاق على دستور جديد، وخريطة تشمل عملية انتخابية وفق قرار مجلس الأمن ذي الصلة، وهو الأمر الذي يطرح أسئلة جوهرية بشأن مستقبل المعارضة السورية وموقع النظام من المعادلة؟ ووفق حتمية طبيعية يقضي بها منطق حكم الدولة الإرثية العنفية، دائرة الحصار مرشّحة لأن تكون أوسع وأمتن، فهناك شواهد متواترة، إنْ على صعيد العسكرة أو السياسة، لا بدّ ستجعل "مملكة الأبد" مسرح الانفجار المقبل. ومن الشواهد تقليم مخالب بشار الأسد بعد سحب صلاحيات حزب البعث من السلطة. تحريك محاكم مكافحة الإرهاب. تحويل جيش النظام إلى جيشٍ تطوعي بدلاً من جيشٍ عقائدي. الوعد بتسريح ضبّاط الاحتياط وتقليص فترة الخدمة الإلزامية. وأخطر المستجدّات، لا شكّ، مصادقة محكمة فرنسية على مذكرة اعتقال رأس النظام السوري بغضّ النظر عن الحصانة التي يتمتع بها بصفته رئيساً... إلخ.

ومن مرارة ما ذُكر أعلاه، وبالعودة إلى بدء، ما يحدث اليوم في غزّة حدثَ في سورية بالفعل في تمازجٍ بنيوي غير معكوس. المجازر والتدمير، الإذلال والتجويع. وفي أساس نسيج المفارقات فإنّ مخاضَ المنطقة ليس مسألة مؤامرات مُضمرة، لكن لميزان القوى دوراً في تسويق المحتمل والممكن، وفرض ما هو مسموح به أو ممنوع. فمثلاً حين تدين وزارة الخارجية السورية والمغتربين، وبأشدّ العبارات، الهجمات الإرهابية التي وقعت بجمهورية داغستان في الاتحاد الروسي، ولم تدنها في غزة قطّ، إنما يدلّ على انهيار سيّد من تاجر بالقضية الفلسطينية، وفقدان خطابه السيادي المستقلّ، ويتضح أنه لطالما كان طبلاً، صوته عظيم فقط لأنه أجوف.

نافل القول.. يراهن بشّار الأسد على الصمت الإسرائيلي تجاهه ولا يعلم أنه نذير شؤم باجتياحات طوفانية ستودي به. هو الذي فرّط بكلّ شيء ليبقى في السلطة، بينما يتشبث، عبثاً، ببلدٍ ضاع ولم يبقَ فيه إلا الرمال والموت على حدّ تعبير الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.