ذبح السياسة في تونس

14 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

قيل في الأخبار إن انتخاباتٍ رئاسيةً انتظمت في تونس الأسبوع الماضي. اضطُررنا، نحن العاملين في الإعلام، أن نتعامل مع هذه المزحة بجدّية. نشرنا نسبة التصويت، وما أحرزه كلٌّ من المرشّحين الثلاثة، وبيانات الهيئة المستقلة العليا للانتخابات. وسنفعل لاحقاً مثل هذا، عندما يؤدّي الرئيس الفائز، واسمُه قيس سعيّد، القَسم، وربما يلقي خُطبة سيُخبِر التونسيين فيها عن حروبه التي سيواصلُها، في ولايته (أو عهدته بتعبير مغاربي) الجديدة، ضد الفاسدين والسرّاق، وضد المتآمرين على تونس. سننشُر هذا كله، فالخبر المتحدَّث عنه حقيقي، وطبيعي، رغم أن القصّة كلها تنتسبُ إلى عبثٍ لا مثيل له في أي واقعةٍ انتخابية، إلا إذا اعتبرْنا أن انتخاباتٍ للرئاسة في سورية (مثلاً) هي انتخابات، وقد حدَث في واحدةٍ من نوباتها أن ثلاثة "مرشّحين" خاضوا ذلك النوع الطريف من التنافس. ولا يسلُك الكلامُ هنا منحاه الساخر هذا عمّا سُمّيت انتخابات رئاسية في تونس رغبةً في الفكاهة في لحظة عربية شديدة الملوحة، تضجّ بالكآبة، وإنما لأن المقدّمات الغزيرة التي سبقت اقتراع 6 أكتوبر وسياقاته لا تأخذُك إلى غير التندّر، الموشّى بالأسى، فالبلد الذي يُحكى عنه هنا هو تونس، أي البلد الذي وعد العربَ بانتقالهم إلى حداثة السياسة وشروط حضورهم في العالم، عندما يعبُرون من تمرينٍ ديمقراطيٍّ إلى حالةٍ ديمقراطية، البلد الذي أطاح شعبُه حاكماً كان بارعاً في تخييط انتخاباتٍ رئاسيةٍ ديكوريةٍ جدّدت له ولاياته.

إذا كان التندّر هو ما استحقّ أن يُتعامَل به مع الذي جرى في تونس الأسبوع الماضي فهذا مُحزن، وثقيلٌ على النفس لا شك. ببساطةٍ، لأن هذا الذي حدَث كان تمثيلاً كاشفاً لانتصار الرثاثة السياسية في أسطع صورها، لابتهاج الثورة المضادّة بنفسها، لخسارتنا، نحن المقيمين في ضفّة الديمقراطيين المناوئين للاستبداد بكل أشكاله. وبلا تطويل كلام، لقد أجهز قيس سعيّد، في سنواته الخمس السابقة، بعد انتخابه رئيساً بموجب دستورٍ متقدّم، وبعد ثورةٍ باهرة، على كل معنىً للسياسة، ذبَح جوهرَها، مبرَّرها، لا بالقمع التقليدي، من طراز الذي نُكبا به، سورية والعراق، في زمني حافظ الأسد وصدّام حسين، ولا بالاحتيال السياسي من طراز الذي احترفه في مصر نظام حسني مبارك في عشريتيْه الأخيرتيْن، وإنما بالركاكة والرداءة ولا شيء غيرهما، بنوعٍ من الشعبوية المسفّة. والحزنُ المشارُ إليه أعلاه، والمقيم في نفوسنا، من هذا الخراب، لا يعود فقط إلى ردّة تونس عن الوجهة التي كانت تمضي إليها، وإنما أيضاً لأن نجاحات سعيّد في التحطيم الكثير الذي فعله، وما زال، تضعك أمام السؤال التعيس، عن العطالة التي تقيم فيها المعارضاتُ التونسية وقوى المجتمع، ويسّرت لهذا الرجل نجاحاتِه، منذ ما قبل الانقلاب الذي أحدثه مروراً إلى حبسه رموزاً وفاعلين وناشطين وحقوقيين وسياسيين لم نعُد ندري أعدادهم، ثم تجويفه الحياة الحزبية والمؤسّساتية في الدولة، وانقضاضه على القوانين الناظمة لتداول المجتمع في قضاياه. معطوفاً هذا كله مع فشلٍ ظاهر في التغلّب على البطالة والفقر والغلاء والمديونية، بل صِرنا نقرأ عن نقصان سلع وغياب كثير منها في الأسواق. ولا يتعالم صاحب هذه الكلمات على أحدٍ في تونس إذا ما جهر هنا بأن ما فرعن قيس سعيّد هو العطب المروّع في النخبة التونسية التي بارك كثيرٌ منها بؤسَه، وقوّاه، ومدّه بكل أسباب العبث الذي يزاوله بكل اطمئنانٍ وثقة. وليست جولة سحب ولاية المحكمة الإدارية في النظر في قضايا الانتخابات في قانونٍ معدّل، فبركه، أياماً قبل فرية الاقتراع الرئاسي، إلا واحدةٌ من متوالياتٍ دلّت على تفشّي الولع بقيس سعيّد بين هذه النخبة التي صمتت عن حبْس راشد الغنوشي منذ ثلاث سنوات والأحكام القضائية السخيفة ضد المنصف المرزوقي، وثمّة غير هذين الاسمين، اللذيْن كانا من عناوين ثورة تونس المجيدة، من يقيمون في سجون سعيّد، ولم نر غير وقفات احتجاجية محدودة ضد احتجاز بعضهم.

ليس في جِرابنا سوى الغضب، والحزن، والضحك المحلّى بالأسى، فالحُطام الذي تتعدّد في تونس تفاصيله ليس قيس سعيّد وحدَه المسؤول عنه، وهذا، بحقّ السماء، شديد الفداحة في مهابط قلوبنا، لأنها تونس التي نحبّ ونهوى.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.