ديمقراطيون ولكن .. في أسطرة الثورة السورية وطوطمتها

23 سبتمبر 2022
+ الخط -

عقدت في سورية وعنها مئات المؤتمرات، لم ينجُ أيٌّ منها من النقد السلبي والهجوم المعلّب. وكان جديد هذه المؤتمرات أخيرا الذي عقدته ثلّة من السوريين الأميركيين في واشنطن العاصمة، وأسمته المؤتمر السوري الأميركي للميثاق الوطني. على أن الطريف في هذه الحالة أن الهجمة الشرسة على المؤتمر بدأت حتى قبل عقده.

أعلن المؤتمرون هدفا محدّدا لمؤتمرهم: صياغة ميثاق وطني يضمّ جملة من المبادئ التي ينبغي أن تكون، من وجهة نظرهم، شاملة العيش المشترك في سورية، وأوضحوا أن ميثاقهم الوطني ليس دستورا وليس برنامجا سياسيا لمجموعة سياسية، بل جملة من المبادئ التي ينبغي أن تحكم السوريين بشأن الحقوق والواجبات والعدالة وسيادة القانون والمواطنة المتساوية. ولذلك أثبتت الوثيقة أن سورية دولة ديمقراطية تقوم على مبدأ تداول السُلطة، من دون أن تتطرّق إلى مسائل، مثل شكل الحكم مثلا: أيكون رئاسيا أم برلمانيا. ولذلك أيضا لم تتطرّق إلى مسائل مثل الحلّ السياسي والعملية السياسية والمفاوضات والقرارات الأممية عن سورية.

وبشكل عام، تبنّت الوثيقة سورية وطنا لكل السوريين والسوريات، بغض النظر عن أي انتماء إثني أو قبلي أو ديني أو عرقي أو قومي أو أي انتماء آخر، ويقوم على أساس حيادية الدولة تجاه كل المكوّنات والجماعات والأفراد. وهي بلد مستقل وذو سيادة ضمن حدودها المعترف بها دوليا، وتقوم سياساته على مصالح السوريين وقيمهم المشتركة. وضمّنت الوثيقة الحريات الدينية، وأكّدت استقلالية المؤسّسات الدينية عن الدولة واستقلالية مؤسّسات الدولة عن الدين.

الحالة المثالية إذا ما سقط الأسد وزمرته ونظامه، وأُخرج الإيرانيون من سورية، أن يرحل معهم من جاءوا معهم في حمايتهم

وأعطت الوثيقة حقّ المواطنة والجنسية السورية لجميع من يولد لأب سوري أو لأم سورية أو المولودين على الأراضي السورية، ومنحتهم حقوق المواطنة كاملة، يتمتّعون بالحقوق جميعها ويتحمّلون الواجبات كلّها. وأكّدت أنه لا يمكن أن يُحرَم أي مواطن من حقوقه بسبب العِرق أو الدين أو مكان الولادة أو القومية أو اللغة. وتبنّت الوثيقة سورية دولةً ديمقراطية، تضمن كرامة مواطنيها وتنتقل السلطة فيها سلمياً عبر صناديق الاقتراع ضمن نظام انتخابٍ حرّ ومباشر وسرّي، لكلّ مواطن صوت واحد في الانتخابات الوطنية والمحلية. السلطة فيها للشعب عبر برلمان منتخب من المواطنين وفق دستورٍ يحقق مصالحهم جميعاً، وهي تقوم على أساس سيادة القانون ومبدأ المواطنة المتساوية. وأعلت من شأن مبدأ فصل السلطات والحريات الفردية والعامّة، وفي مقدمها حريّة الاعتقاد والتعبير عن الرأي وحرية الإعلام، وشدّدت على حقوق الاجتماع وحقوق التظاهر والإضراب سلميا، إضافة إلى حرية تشكيل المنظمات الأهلية والمدنية والسياسية.

انتقدت جملة من السوريين وثيقة الميثاق الوطني، ويكمن إجمالي أوجه النقد في جملة من القضايا. أسهل انتقاد جاء من تساؤلٍ مفاده: "من أنتم؟". يقوم هذا الاحتجاج على محاولة معرفة من أعطى المؤتمرين في واشنطن الحق في إطلاق ميثاق وطني. ولا تصعب الإجابة عن هذا الانتقاد، فالمجتمعون في واشطن لم يدّعوا أبدا أنهم يمثّلون سوى أنفسهم ومن يماثلهم في التفكير. وواضح أن الوثيقة هي وجهة نظر يأمل المجتمعون أن يعتمدها السوريون، ولكنها غير ملزمة لأحد، ما لم يتبنَّها بشكل طوعي، أو إذا صادق عليها أغلب السوريين. سوى أن النقد الأكثر حدّةً طاول نقطتين، أولاهما استقلال مؤسسات الدين عن الدولة واستقلال مؤسسات الدولة عن الدين. من قرأ الوثيقة ولم يكلّف نفسه عناء التدقيق البسيط في العبارة استنتج أن الوثيقة تطالب بفصل الدين عن الدولة. والحال أن عبارة الوثيقة كانت دقيقة، وتقول: "ضمان الحريات الدينية واستقلالية المؤسسات الدينية عن الدولة واستقلالية مؤسسات الدولة عن الدين". بدأت العبارة بضمان أن الأديان والعبادات مصونة، وأضافت أن الدولة لا ينبغي لها أن تتدخّل في المؤسّسات الدينية، فتفرض على الأئمة والكهنة خطابهم وتُلزمهم بتوجّه سياسي معين، وتستولي على أوقافهم، وتتدخل في جمعياتهم الخيرية. وفي المقابل، لا ينبغي للدين أن يتدّخل في مؤسّسات الدولة، فلا يفرض رجل دين أو فقيه أو داعية وجهةَ نظره الخاصة بفهمه للدين على عمل مؤسّسات الدولة وأدائها.

أشرس الانتقادات لوثيقة المؤتمر السوري الأميركي جاءت من أفراد يرون أنهم يمثّلون "الثورة" السورية ويحتكرون التحدّث باسم "الشارع" السوري

الفقرة الأخرى التي لقيت هجوما حادّا بلغ حدّ التخوين كانت عبارة: "يتمتّع الأشخاص المولودون لأب سوري أو لأم سورية أو المولودون على الأراضي السورية بالجنسية السورية وبحقوق المواطنة كاملة، ولهم جميع الحقوق وعليهم جميع الواجبات". وجه الانتقاد أن هذه المادة تعني قبول التغيير الديموغرافي الذي يحاول بشّار الأسد وإيران إحداثه في سورية، من خلال استجلاب أعداد كبيرة من الإيرانيين وشيعة أفغانستان وغيرهم، من خلال اعتبار أولادهم سوريين. فات هؤلاء المنتقدين أن المبادئ الميثاقية لا تأتي ردّا على ظرفٍ محدّد أو لمعالجة خلل بعينه. وبالتالي، لا يمكن إلغاء مبدأ ميثاقي فقط لأن هذا المبدأ يمكن أن يفيد بضع مئات من الأشخاص الذين لا نريد لهم أن يستفيدوا من ذلك. الحالة المثالية إذا ما سقط الأسد وزمرته ونظامه، وأُخرج الإيرانيون من ديارنا، هو أن يرحل معهم من جاءوا معهم في حمايتهم. وإذا اختار هؤلاء البقاء، فأغلب الظن أن القانون سيحاكمهم بسبب جرائم الحرب التي ارتكبوها، ويمكن أن يحكم عليهم بالسجن مدى الحياة. ويمكن أيضا للقانون أن يلغي إقاماتهم ويرحلّهم إلى الخارج. ولكن أطفالهم الذي ولدوا في سورية يجب أن يكون لهم الحق باكتساب الجنسية إذا أرادوا. وأغلب الظن أنهم لن يفعلوا وسيلتحقون بآبائهم. ودعونا لا ننسى أن سورية ليست حاليا بلدا يغري الناس بالمغامرة لاكتساب جنسيته. خلاصة القول ههنا إن المبدأ الدستوري أو فوق الدستوري لا يمكن أن يوضع لخدمة هدف سياسي أو غاية دينية أو لتعظيم دور فئةٍ من الناس، وتقويض فئة أخرى. على العكس، توضع المبادئ لتكون معبّرة عن روح الأمة بما يتماشى مع القيمة الإنسانية ومبادئ الديمقراطية والشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

وجاء انتقاد حادّ، وساخر أحيانا، من السوريين الكرد، لأن الوثيقة لم تلحظ قضية اللامركزية وحقوق الكرد القومية. والحال أن هدف الميثاق الوطني لم يكن المكوّنات القومية والإثنية والدينية السورية، بل كان الأمة ككل ومكوّناتها البشرية (الجندرية والعمرية). وقضايا المركزية أو اللامركزية أو الفيدرالية، وحقوق المكونات القومية وسواها أمر يحدّده الدستور وتفسّره القوانين.

أكّدت وثيقة المؤتمر استقلالية المؤسّسات الدينية عن الدولة واستقلالية مؤسّسات الدولة عن الدين

أشرس الانتقادات جاءت من أفراد يرون أنهم يمثّلون "الثورة" السورية ويحتكرون التحدّث باسم "الشارع" السوري. سوى أن المشكلة أنهم لا يستطيعون تعريف "الثورة" ولا تحديد الشارع، فهل الثورة هي الانتفاضة السلمية التي بدأت في 2011 وقادها أشخاصٌ مثل عمر عزيز وغياث مطر ورزان زيتونة وسميرة الخليل وباسل شحادة ومشعل تمّو ويحيى شربجي وآخرين لا يُحصَون؛ أم هي ثورة عدنان العرعور ودقّ الطناجر فوق الأسطح والتكبير في منتصف الليل؛ أم هي الجهاد الذي ابتدأه زهران علوش وحسّان عبود وقادة الكتائب والسرايا التي انتشرت كالفطر في سوريا من دون رقيب ولا حسيب؟ وكذا الأمرُ في ما يخصّ "الشارع"، فالكلمة لا تدلّ على شيء يمكن وصفه وقياسه، بل تدلّ على تصوّري الفردي وتصوّرك الفردي لفكرة الشارع، واستخدامنا، أنت وأنا، هذا الشارع، ليخدم فكرتك وفكرتي عن الماضي والحاضر والمستقبل. إن في سلوك بعض السوريين ورؤيتهم أسطرة للثورة وطوطمة لها، أي تحويلها إلى طوطم، يفقد، مع مرور الأيام، معناه الحقيقي ويتحوّل إلى وثن فارغ.

معظم الهجوم جاء من مجموعات "واتساب"، يتمتّع بعضها بسوية راقية من الحوار الوطني والسياسي والثقافي، بينما لا يزيد بعضها الآخر عن مساحة لتزجية الوقت، تعطي المشارك فيها أنه، على كنبته التي يجلس عليها في إسطنبول أو القاهرة أو لوس أنجليس، أو في مدينته النائية في جنوب ألمانيا أو شرق فرنسا، ينشط سياسيا من خلال النضال ساعات وساعات على شاشات الهاتف الذكي. والغريب أن هؤلاء (معظمَهم) ينتقدون الشيء ونقيضه؛ فهم ينتقدون الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وهيئة التنسيق ومنصة موسكو والجيش الوطني والحكومة المؤقتة و"داعش" وجبهة النصرة والعلمانيين والإسلاميين والليبراليين والمحافظين، ما يجعل من حقّك أن تظنّ أنهم يعتقدون أن لا أحد يمثّل الثورة، في واقع الأمر، سوى أنفسهم... على أن الوثيقة لم تحصد النقد والعتاب فقط، وإنما حصدت موافقة قطاع من السوريين، وقد تقدّم بعضهم بنصائح مهمّة جديرة بأن نأخذها بعين الاعتبار. أهمية مؤتمر واشنطن أنه عُقد في أهم عاصمة في العالم، بيدها عمليا القرار النهائي في ما يخصّ الدور الدولي. وميزته أن المؤتمرين ومن معهم يشكلون قطاعا واسعا من الجالية السورية في الولايات المتحدة، وهي جالية راكمت خبرة ومعرفة وصولا إلى صانعي القرار الأميركي في الكونغرس والإدارة، كما أنها جالية تتمتع بالحرية المطلقة، فلا تتعرّض لضغط حكومة ولا مموّل، وهي أخيرا قادرة على الانطلاق من الولايات المتحدة إلى العالم للتواصل مع كل السوريين في الشتات، لعقد مؤتمرهم الوطني الجامع الأول، بجدّ هذه المرّة.

8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
وائل السواح

باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.

وائل السواح