ديمقراطية ساخنة: النموذج التركي
من السهل على الإنسان أن يطالب بالديمقراطية والاحتكام لصوت الشعب حين يكون معارضاً أو بعيداً عن السلطة، أو حين يعتقد أن الديمقراطية يمكن أن تكون رافعة جيدة يستطيع من خلالها الوصول إلى الحكم. التحدّي الحقيقي هو الحفاظ على هذه القناعة عندما تكون على رأس السلطة، وحين تعلم أن من الممكن أن يؤدّي هذا النزول لرغبات الناس إلى إبعادك أو استبدالك.
ما حدث في الانتخابات البلدية والمحلية التركية أخيراً مثال على ما أسميتها "سخونة الديمقراطية". لا يحتمل هذه السخونة كثيرون، ويكفي أن نتذكّر كيف أنها جعلت رئيس أكبر دولة ديمقراطية يأمر مناصريه بالخروج إلى الشوارع وإحداث شغب يعلنون من خلاله رفضهم نتيجة الانتخابات التي أبعدته عن كرسي الرئاسة. وقد تحدّث كثيرون عن تراجع حزب العدالة والتنمية على خلفية فشله في الحصول على أصوات كافية للسيطرة على بلديات ومدن مهمّة، كإسطنبول وأنقرة. ما لفتني كان ذلك القبول الهادىء للنتيجة المؤلمة، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار حجم ما قدّمه "العدالة والتنمية" من دعايةٍ كانت مبنيةً على الثقة باستعادة ما خسره في الانتخابات السابقة.
في تعليقه على النتيجة، اعتبر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن في هذه الخسارة رسالة من الشعب، وأن حزبه يجب أن يلتقطها وأن يستفيد منها، وأن يغيّر خطابه وبرنامجه وفقاً لها. كان من معاني خطاب أردوغان أن سنن الله لا تجامل أحداً، وأن أي حزبٍ إذا لم يطوّر نفسه ويتماشى مع المتغيرات والتحدّيات الجديدة، فإنه لن يلبث أن ينزوي ويتلاشى، حتى يصبح بلا وزن، أو كما قال بتعبيرٍ لافت كثلج يذوب بالتدريج تحت أشعة الشمس.
تسعد هذه الخسارة أعداء الحزب، خصوصاً في العالم الغربي، الذي كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية السابقة وإعادة انتخاب أردوغان قد أحبطت كثيرين من ساسته. إذا نظرنا إلى الأمر من جانب آخر، سوف نكتشف أن هذه الخسارة تظهر أيضاً تناقض الدعاية الغربية. كان يحلو لتلك الدعاية أن تصف الدولة التركية بالاستبدادية، لكن كيف يخسر حزبٌ حاكمٌ في نظام استبدادي أو ديكتاتوري، وهل كانت الدولة تعجز، إن كانت تسير فعلاً بلا مؤسّسات ووفق توجيهات رجل واحد، عن أن تتلاعب بنتيجة التصويت، أو أن تهندسها؟
الديمقراطية بوصفها قيمة يجب الحفاظ عليها، بغض النظر عما يمكن أن تؤدّي إليه، أو من يمكن أن تجلبهم إلى السلطة
هذا الإيمان بالديمقراطية بوصفها قيمة يجب الحفاظ عليها، بغض النظر عما يمكن أن تؤدّي إليه، أو من يمكن أن تجلبهم إلى السلطة، مما يحمد لحزب العدالة والتنمية، وإن من الإنصاف القول إن ذلك لا يقتصر عليه. في محاولة الانقلاب الفاشلة في العام 2016، ظهر أن أغلب الأتراك يؤمنون إيماناً راسخاً بأن حكماً ديمقراطيا، حتى لو جاء بحزب منافس، هو أفضل من حكم العسكر. هذا الفهم، على بساطته، وعلى الرغم من كونه أمراً بديهياً، يجعلنا نعقد مقارنات مع ما يحدُث في دول كثيرة في الجنوب، التي لا يجد فيها سياسيون، وحتى مثقفون مدّعون الليبرالية، حرجاً في الاصطفاف خلف قائد عسكري، إن كان ذلك سيقودهم إلى الحكم.
استوققت الكاتب عدة مشاهد في هذه الانتخابات، منها أن نزاعاً كان بشأن فوز حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب (الكردي)، المتهم بالتقارب مع حزب العمال الكردستاني، برئاسة البلدية في ولاية فان، أقصى شرق تركيا. بعد ساعات طويلة من الاضطراب، حسمت اللجنة القضائية العليا المستقلة المشرفة على الانتخابات الأمر، لتعلن أن مرشّح الحزب عبد الله زيدان هو الفائز، وأنه يتوجب بناء على ذلك تسليم إدارتها إليه. لم يعجب هذا الإعلان كثيرين، خاصة من كان منهم معترضاً على السماح لمرشّح هذا الحزب بخوض الانتخابات، لكن منطق اللجنة كان مختلفاً، فبغض النظر عن أي شيء، فإن زيدان، وهو شخصية سياسية مثيرة للجدل، حصد العدد الأكبر من الأصوات في المدينة.
تتّضح، في هذا المثال، سخونة الديمقراطية التي تسمح لمتعاطفين مع حزبٍ يمارس الإرهاب ضد الدولة بخوض الانتخابات، فقط بشرط التحلّي بالمسؤولية وعدم تبنّي منطق الإرهابيين بشكلٍ معلن. ليس هذا فقط، ولكن حتى حينما يحدُث إشكالٌ فني وتُتاح فرصة لإلغاء فوز ممثل الحزب المعارض وتنصيب منتمٍ للحزب الحاكم، الذي يأتي في المرتبة الثانية، فإن اللجنة الانتخابية المستقلة تعود لتنصر الأول وتؤكّد فوزَه ضد الثاني.
ما حدث في الانتخابات البلدية والمحلية التركية مثال على"سخونة الديمقراطية"
فاز حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب بعشر ولايات في جنوب شرق تركيا، حيث الأغلبية الكردية، وفيما يرى بعضهم أن هذا يعني أن خطابه كان مقنعاً لأولئك الأكراد، يرى آخرون أن الناس دعموا الحزب اتّقاء لغضبه أو غضب حليفه، "العمّال الكردستاني" الذي لن يحتاج بعد الفوز للقيام بأي عمل انتقامي. بغض النظر عن هذا الجدل، ينفي الوصول إلى هذه النتيجة أي حديث عن التمييز، أو الاضطهاد، أو عن حرمان الأكراد من ممارسة حقوقهم السياسية.
على الجانب المقابل، تألق حزب الشعب الجمهوري، الذي حصل على الجزء الأهم من الكعكة الانتخابية، لكن اللافت تصريحات رموزه، التي كانت أبعد ما تكون عن التشنج والمبالغة في الفرح. جعل هذا المسألة برمّتها تعود إلى أصلها البسيط، المتمثل في التنافس على خدمة الشعب. وقد قال زعيم حزب الشعب الجمهوري أوزكور أوزال، في تعليقه، إنه لا يوجد خاسر في هذه الانتخابات، فيما قال منصور ياواش: "فزنا ولم ننتصر، فالنصر يكون على الأعداء، ومن فزنا عليهم ليسوا أعداءنا بل منافسونا".
يذكّر هذا كلُّه بعبارة منسوبة للزعيم السوداني الراحل إسماعيل الأزهري: "الديمقراطية نور ونار، فمن أراد نورها، فليصطل بنارها". تكمن المشكلة حين يتعامل الناس مع الديمقراطية وفق المصلحة، يدعمونها حيناً، ويستعدّون لوأدها بلا رحمة، حين تتغيّر الظروف.