ديكتاتورية قيس سعيّد الدستورية

28 يوليو 2021
+ الخط -

فاجأ الرئيس التونسي، قيس سعيّد، مواطنيه، في ختام يوم أضرم خلاله متظاهرون النار في مقر حزب النهضة، الإسلامي، بقراره منح كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في بلاده لنفسه، لكن هذا لا يعني أنه لم يختر بعناية توقيت تحرّكه، مستغلا جائحة كورونا، وحالة الجمود السياسي بسبب النزاعات السياسية بينه وبين رئيس الحكومة من جهة، وبينه وبين رئيس برلمان مجزّأ، من جهة أخرى، ما أدخل تونس في أزمة اقتصادية خانقة تفاقمت بسبب تفشّي وباء كورونا الذي جعل منها أكبر بؤرةٍ للفيروس اللعين في القارّة السمراء.

استند سعيّد إلى حالة الطوارئ التي ينظمها الدستور، ليعلن في وقت متأخر من الليل عن قراراته التي وضعت حدّا للحياة السياسية في البلاد، وأعادتها سنين طويلة إلى الوراء، وشدّد القيود التي فرضها فيروس كورونا على حركة الناس، وحثّهم على عدم النزول إلى الشوارع، وتوعد بأن أي معارضةٍ عنيفةٍ لقراراته ستُواجه بالقوة وبوابل من الرصاص. وأمر سعيّد، الذي لم يذكر متى سيعين رئيسًا جديدًا للوزراء أو متى سيتخلّى عن سلطات الطوارئ التي منحها لنفسه، بتعطيل إدارات الدولة ومؤسساتها العمومية، وحظر التجول ليلا، وربما هناك مزيد من المفاجآت في جعبة هذا الرجل الغامض.

أراد سعيّد بتحرّكه أن يقدّم نفسه منقذا للبلاد من الدمار الناجم عن جائحة كورونا، ومن حالة الاختناق السياسي المزمن بسبب التشنّجات بين الحساسيات السياسية المتطاحنة منذ قامت الثورة، لكنه ينسى أنه هو نفسه جزء من المشكل، لأنه لم يعمل طوال فترة حكمه المتوترة، منذ 2019، سوى على تغذية حالة الغضب والاحتقان الشعبي من خلال عرقلة عمل الحكومة، وصراعه العلني مع البرلمان، وتنازعه النظري بشأن اقتسام السلطة وتوزيع الاختصاصات والصلاحيات. وكانت لحظة تفشّي الوباء الذي دفع الناس إلى الخروج إلى الشوارع للاحتجاج، فرصة سانحة له للظهور في مظهر الرئيس المنقذ الأسطورة.

المشكل ليس في الديمقراطية في حد ذاتها، إنما المشكل في وجود سياسيين وحكام غير متشبعين بالفكر الديمقراطي الليبرالي

وبقدر ما بدا المشهد مفاجئا لكثيرين، إلا أن سيناريو الأحداث سبق له أن نشر في وثيقة مسرّبة من مكتب سعيّد نفسه، نشرها قبل أشهر قليلة موقع "ميدل إيست آي"، تتحدّث، ويا لغرابة المصادفات، عن خطة لـ"ديكتاتورية دستورية"، تقوم على تفعيل الرئيس مادّة في الدستور تمنحه السيطرة الكاملة على مفاصل الدولة، وينتزع بموجبها سلطات الحكومة واختصاصات البرلمان المنتخب وصلاحيات القضاء، لتركيز كل السلطات في يده، مستغلا تخبّط البلاد في مكافحة جائحة كورونا وارتفاع منسوب الغضب الشعبي والاحتقان السياسي. فما وقع في تونس كان متوقعا، بل ومبرمجا، والأحداث الأخيرة ليست سوى نتيجة حتمية لعمل الثورة المضادّة التي أدخلتها في أسوأ أزمة سياسية عرفتها منذ عشر سنوات، بعد أن أطاح الرئيس الحكومة وعلق عمل البرلمان، مستعينا بتأويله الخاص للدستور، ولكن بمساعدة من الجيش، في خطوةٍ دانتها الأحزاب الرئيسية في البلاد، وفي مقدمتها حزب النهضة، الإسلامي، ووصفتها بأنها انقلاب على الدستور. وعلى الرغم من قوة هذا الوصف وحساسيته، إلا أنه يصعب إيجاد تعبير آخر مثل وصف الانقلاب يختزل ما حدث من تركيز لكل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في قبضة الرئيس الذي خرج على التلفزيون الرسمي يهدّد كل معارضيه بالمحاكمة وبالرمي بالرصاص الحي. ومهما كانت الحجج والمبرّرات والتأويلات الدستورية التي تحاول تغطية هذا "الانقلاب الناعم"، سيبقى أكبر ارتدادٍ على الديمقراطية التي تعتبر أكبر مكسب حققته الثورة التونسية.

المفارقة تكمن مرة أخرى في الذين ينجذبون إلى عهد الديكتاتورية التي مهّدت لها قوى الثورة المضادة في الداخل والخارج، طوال السنوات الماضية، بممارساتٍ سياسيةٍ فاشيةٍ عطّلت الحياة السياسية، وشوّهت عمل المؤسسات الديمقراطية، ونشرت خطاب التيئيس من الديمقراطية المتّهمة بعدم تحقيق الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي. وأغلب من يمتدحون اليوم قرارات الرئيس سعيّد تغذّيهم نزعاتهم الانتقامية من حركة النهضة الإسلامية، وعماؤهم الإيديولوجي، بل وأحيانا الديماغوجي لكل من يخالفهم الرأي، وهم لا يختلفون عن الذين هللوا للانقلاب العسكري في مصر، فالكلام نفسه الذي يتردّد اليوم سبق أن سمعناه وقرأناه صيف عام 2013، وهو صادر عن يساريين وليبراليين وعلمانيين وديمقراطيين وسلفيين.. ومنافحين عن قيم الحرية والعدالة، وأغلبهم انتهى به المطاف في سجون النظام الانقلابي الذي هلّل له وبرّر جرائمه.

شهدت الديمقراطية التونسية الفتية والهشّة اضطرابات عديدة منذ 2011

من السهل الدفع بالحجّة بأن الديمقراطية في تونس لم تقدّم الحل، لكن المشكل ليس في الديمقراطية في حد ذاتها، وإلا لما كانت نجحت في دول عديدة، المشكل في وجود سياسيين وحكام غير متشبعين بالفكر الديمقراطي الليبرالي. وما تحتاجه تونس اليوم هو العودة إلى منطق العقل، والاحتكام مرة أخرى إلى قواعد الديمقراطية، ووضع خطّة طريق، متوافق حولها، ترسم مستقبل البلاد بوضوح، لأن إعادة إنتاج حكم مستبدّ مثل الذي أسقطته الثورة لن تضمن استقرار البلاد ولن تحقق لها الازدهار المنشود. ولا ينبغي أن ننسى أن نجاح الديمقراطية التونسية كان نتيجة انتصار سياسة التوافق، واليوم يفرض الوضع الصعب الذي تمرّ به هذه التجربة تقديم تنازلاتٍ كثيرة من كل القوى السياسية والمدنية التي ساندت ثورة 2011، لتجنيب بلادهم العودة إلى نادي الديكتاتوريات العربية. والعمل أكثر على تحسين مستوى معيشة السكان وتحقيق العدالة الاجتماعية.

لقد شهدت الديمقراطية التونسية الفتية والهشّة اضطرابات عديدة منذ عام 2011 بسبب التشنجات بين الفرقاء السياسيين. وعلى الرغم من أنها فشلت في تحقيق الرخاء أو الانتقال الديمقراطي المنشود، إلا أن التجربة التونسية، بكل ما لها وما عليها، تقف في تناقض صارخ مع مصير تجارب البلدان الأخرى التي انتهت فيها ثورات الربيع العربي بحملات قمعٍ داميةٍ أو حروب أهلية مدمّرة أو ديكتاتورياتٍ وأنظمة حكم سلطوية أسوأ من التي كانت موجودة.

تعيش البلاد فعلا حالة طوارئ، وهذه هي الحقيقة الوحيدة التي يجمع عليها جميع الفرقاء السياسيين في تونس، ويتفقون فيها مع الرئيس، وبدلا من تعميقها بالبحث عن المسؤول عنها، يجب التركيز على معالجة أسبابها، ولكن في إطار المنهجية الديمقراطية التي تعطي الجميع المشروعية التي يتحدّثون بها اليوم باسم الشعب.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).