دول صغيرة وأميركا

10 سبتمبر 2022
+ الخط -

يتحدّث الروس والصينيون، بثقة مبالغ بها في عصرنا الحالي، عن قرب تشكّل عالم متعدّد الأقطاب. ولئن كانت صياغة مثل هذا العالم تحتاج إلى وأد "القطب الأوحد"، غير أن معضلته تكمن في تجاهله، مثل القطب الأوحد، الدول الصغيرة. بنظرة سريعة على خريطة الكوكب، يمكن ملاحظة القليل من الدول المتمتعة بمراكز محورية في أقاليمها، ترتكز على موارد وفيرة وطرق مواصلات تمرّ بها. وبمحاذاة هذه الدول القليلة، تتناثر عشرات الدول الصغيرة، غير المُنعم عليها لا بالموقع ولا بالديموغرافيا، ولا بالقوتين الاقتصادية والعسكرية. بعض هذه الدول اختارت فهم نفسها وحجمها، فأوجدت لنفسها مساحةً وفق قدراتها، بينما اختارت دولٌ أخرى الغوص في مفهوم المكابرة الذي يدمّر معتنقها. في المقابل، اختار بعض آخر، ومنها لبنان، اعتماد سياسة التسوّل.

في عالم القطب الأوحد أو متعدّد الأقطاب أو أيٍّ من أشكال توزّع القوى، لن تجد الدول الصغيرة مكاناً لها على الخريطة. الأمر ليس قدراً بل إن حتمية صعود القوى الجديدة تنبع من "الاحترام" الذي تفرضه على جوارها، بالترهيب وبالقوة، ونادراً ما يكون متبادلاً. ودائماً ما تؤسس أي دولة صاعدة لديمومتها، وفقاً لما تقترفه من أخطاء في حيّزها الجغرافي، خصوصاً في العمليات العسكرية من اجتياح واعتداء. ثم لاحقاً، بمصادفة ما أو بتخطيط نوعيّ، تتهاوى هذه الدول، وتتراجع من الاحتلال إلى سقوط أنظمتها أو هيكليتها، مثل ما حصل مع ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وأيضاً مع الاتحاد السوفييتي بعد انفكاك الدول الشرقية عنه. وفي كل الحالات، تظهر إرادة الدول التي كانت خاضعة لحكم القوة الأكبر في الإقليم بالحاجة إلى الاستقلال وتحصينه، عبر تحالفاتٍ عابرةٍ للقارّات وبجيش معزّز.

وإذا كان لا بدّ من درس لفهمه في العام 2022، فإنه يتمحور حول أوكرانيا وتايوان، وكيفية صياغة تحالفات غير هشّة، تدفع المعسكر الغربي، وفي مقدمته الولايات المتحدة، إلى تقديم أكبر قدر ممكن من الدعم للطرفين. الأميركيون، في العام الحالي، تحوّلوا إلى المصدر الأول للمساعدات الاقتصادية والعسكرية والإنسانية لأوكرانيا، وإلى أكبر شريك عسكري لتايوان. هل هذا يعني أن الأميركيين جمعية خيرية؟ بالطبع لا، بل إن ما فعلته تايبيه وكييف هو الخروج من الظلال الصينية والسوفييتية (الروسية) على التوالي. وإن كانت الأولى فريقاً غير مستقل وجزءا من مبدأ "صين واحدة"، فإن الثانية التي كانت "رأس الاتحاد السوفييتي" بحسب زعيمه جوزيف ستالين، و"الويل إذا فُقد الرأس"، أصبحت "الجدار" الذي لن يسمح للروس بتجاوزه إلى العمق الأوروبي، سواء ردّاً على توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً، أو إحياءً لأفكار بطرس الأكبر وتطبيقاً لنظريات المفكر ألكسندر دوغين.

لماذا الاهتمام الأميركي بأوكرانيا وتايوان؟ في تايبيه، نشرت وكالة بلومبيرغ تقريراً في يونيو/ حزيران 2021، جاء فيه أن "العالم يتعامل مع تايوان لقدرتها على تصنيع رقائق حاسوب رائدة. ويعود ذلك، في الغالب، إلى شركة "تايوان لصناعة أشباه الموصلات"، وهي أكبر مسبك عالمي، ومنتِجة رقائق الهواتف الذكية لشركة آبل، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة عالية الأداء. وأضافت الوكالة إن "دور تايوان في الاقتصاد العالمي كان هامشياً إلى حد كبير، إلى أن برز أخيراً بعد معاناة صناعة السيارات من نقص في الرقائق التي تستخدم في كل شيء، بدءاً من أجهزة استشعار وقوف السيارات إلى تقليل الانبعاثات".

في كييف، يدور حديث عن مرحلة ما بعد الانتهاء من الغزو الروسي، ويتركّز على "خطة عشرية" مدتها عشر سنوات لإعادة إعمار أوكرانيا بمبلغ 750 مليار دولار، تستند إلى فكرة الحرية الاقتصادية، ونمو الصادرات، وزيادة الاستثمارات الرأسمالية.

أوكرانيا وتايوان نموذجان لطرفين صغيرين، إذا ما قورنا بروسيا والصين، لكنهما يسعيان إلى التحول إلى ركيزة أساسية في الإقليم. لن يكونا حياديين كسويسرا مستقبلاً، بل نوعاً جديداً من "الدول الصغيرة" التي سيرتبط تأثيرها بقطب أوحد يمنع صعود عالم متعدّد الأقطاب.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".