دولة مدنية .. لا دينية ولا عسكرية

01 ابريل 2014

من مسيرات الثورة التونسية

+ الخط -

لم تنزل الجموع إلى الشوارع في وجه قوى البطش والاستبداد، ولم يسقط الشهداء والجرحى، حتى يقوم عهد جديد من الدكتاتورية، وتسود الصراعات الدموية المُغَلَفة بشعاراتٍ تتستر بالدين والتدين، أَو بعلمانية زائفة، رجعية المضمون، فاشية الجوهر والممارسة.
شعار "خبز، حرية، عدالة الاجتماعية" الذي صدحت به حناجر الشباب المتمرد في تونس وميدان التحرير في مصر، لم يكن مجرد كلمات، يسهل ترديدها وغناؤها، بل كان، وما زال، أَساس رؤية سياسية اجتماعية اقتصادية، لم تتبلور في برنامج استراتيجي للتغيير، بل ظلت مُعَلقة في الهواء؛ فيما دخلت على الخط قوى تمثل أَنظمة الحكم القديمة، أو مجموعات محكومة بفكر ظلامي تغييبي، مدفوعة الأجر أَموالاَ، أو تحركها مشاعر يأس متراكم، مشوه الوعي تفكيراً
القوى التي قادت نضالات طويلة، خصوصاً اليسارية والقومية، عجزت عن قيادة المرحلة، وتعمقت انقساماتها وشرذمتها، فيما لم يدم انتصار "الإخوان المسلمين" الانتخابي فترة طويلة، ليس فقط بفعل الانقلاب العسكري في مصر، بل، أَيضاً، لأن شعار "الإسلام هو الحل" قاصر عن بناء مؤسسات حكم واقتصاد إنتاجي، ومجتمع القانون والمواطنة.
  الأخطر كان حدوث الانقسام العمودي في جميع المجتمعات العربية، من دون استثناء، وإن بدرجات متفاوتة، تتنازعه صراعات هوياتية، وطائفية مدمرة، وكلها، في حقيقتها، صراعات سياسية على الحكم والمكاسب، تستغل لإثارة الذعر والخوف "من آخر" حقيقي ومزعوم، فحلت "الشيطنة الدعائية" مكان الحوار وجدل الأفكار والبرامج.
النتيجة كانت وتبقى هدر حياة الآلاف وتعميم الظلم، وسكب الدمع وهدر الدماء، لكي ينحرف مسار الثورات، ويبقى العالم العربي تحت هيمنة تبعيةٍ اقتصادية وسياسية، تمنع ولو هامشاً معقولاً في استقلالية القرار الوطني، وتعرقل انتقاله من النظام الريعي السائد، والذي رسخ مفاهيم "الرَعايا والرَعية"، إلى الدولة المنتجة، عوضاً عن مفاهيم المواطنة والمساواة.
غياب الرؤية البرامجية تحكَّم، منذ البداية، بمسار الانتفاضات العربية، فأَعطى المجال للتدخل الخارجي، السياسي والمالي، وأَدى إِلى فصل الأهداف الاجتماعية والتحريرية الوطنية، وحتى إِبعادها، وكأن الانتخابات والديمقراطية الشكلية هي الحل، فجرى تبني برامج الليبرالية الجديدة ووصفات صندوق النقد الدولي؛ من رفع أَسعار وفرض "التقشف" على الفقير المُتَقشِف أصلاً وغصباَ، وضرب الطبقة الوسطى، وتعميق الفروق الاجتماعية. 
من طبيعة الانتفاضات والثورات أن تمر بمخاضات. لكن، ما لم نتوقعه، على الأقل بمثل هذا الوضوح والقسوة، أن نصل إلى لحظةٍ، يتم فيها التهليل لمجازر ومذابح، باسم ليس "الدين" فحسب، ونقصد القتل الطائفي التكفيري، بل باسم التقدم والأمن والأمان، ومحاربة "الإرهاب"، في أساليب هي صدى لحروب أميركا المزعومة على الإرهاب، من اعتقالات وأحكام إعدام بالجملة وإقصاء وإلغاء.
فنحن نشهد تشويهاً قيميأَ مخيفاً ومرعباً، ساهم الإعلام بإنتاجه، ونشره بسرعة وعلى امتداد واسع، تشويهاً يهدد كفاحاً عادلاً ومحقاً، تشويهاً علينا مواجهته بنشر فكر تنويري تقدمي، يرفض التعصب والعصبية. هذا واجبنا تجاه الشهداء وكل إنسان عربي تأمل في فجر عدالة وحرية، سواء من محتل، أو من غبن أو فقر أو عوز.
في البدء كان الأمل، ولا يحق لنا أن نقتل الأمل، بل بالتركيز على الهدف الذي لا يمكن أن يتحقق في حكم عسكر أو حكم ديني، بل حكم الدولة المدنية، دولة المواطنة والقانون والعدالة الاجتماعية؛ دولة تحترم الدين، لكن لا تستغله ذريعة حكم وإقصاء، ودولة تحترم الجيوش الوطنية، وترفض استعمالها أدوات قمع وقهر.